الخميس، 27 نوفمبر 2008

الجوانب المالية والاقتصادية في النظام الفيدرالي (1)


الجوانب المالية والاقتصادية في النظام الفيدرالي (1)

القاضي قاسم حسن العبودي
Wednesday, 30 April 2008
مدخل: تعد الجوانب المالية والاقتصادية في الدول الفيدرالية من أكثر المسائل تعقيداً وإثارة للجدل والنقاش وذلك لتأثيراتها الفائقة على القوة الاقتصادية
للحكومات الفيدرالية والمحلية ومواطني الدول الفيدرالية على حدٍ سواءً.

وعلى الرغم من تعدد النماذج الفيدرالية فـي العالم ووجود أكثر من (25) دولة فيدرالية إلا انه يمكن القول ومن خلال تتبع وتحليل المجالات الاقتصادية في هذه الدول بأنه لا يوجد نظام واحد أوعدد قليل فقط من الأنظمة التي تحكم وتنظم العلاقات المالية بين المستويات الحكومية المتعددة بصورة عمودية أو أفقية (بين الولايات أو الأقاليم الفيدرالية)، وإنما اختلفت وتعددت هذه النظم بتعدد الدول الفيدرالية وعولجت كل مشكلة وفقاً لمنظور خاص حدد في دستور تلك الدول أو قوانينها. إلا إن ذلك لا يعني عدم إمكانية إيجاد صيغ عامة لمعالجة هذه المشاكل بالاعتماد على تجارب الدول الفيدرالية في العالم والتي أفرزت تجاربها في هذا الميدان العديد من نقاط القوة والضعف في التطبيقات المالية والاقتصادية المختلفة.

لقد اهتم الباحثون الاقتصاديون بهذا الميدان المهم جداً وظهر إلى الوجود ما أصبح يطلق عليه موضوع الفيدرالية المادية (Fiscal Federalism) التي كما تم تقديمها من قبل Musqrave (1959) و Oates(1972)بأنها السياسة المتمثلة بتوزيع الثروات الطبيعية وتحديد الصلاحيات المالية بطريقة منطقية بين المستويات المتعددة من الحكومات في البلدان الفيدرالية([1]).

ويشمل هذا الموضوع مدى واسع من المجالات والمتغيرات الاقتصادية والمالية المختلفة ابتداءً من تحديد ملكية الثروات والموارد الطبيعية وعائديه إيراداتها وطريقة توزيعها بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم مروراً بالسياسة المالية والنقدية للحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم وصولاً إلى إعداد الميزانية الفيدرالية ونظام المدفوعات الفيدرالي والسياسة الضريبية والعلاقات الاقتصادية والمالية بين الأقاليم المختلفة وبينها وبين الحكومة المركزية ودول العالم.

وإذا أردنا أن نناقش كل هذه الموضوعات بإسهاب فإن الأمر سيتطلب الكثير من الجهد والوقت الذي لا يتسع له المجال في نقاشنا هذا الذي سنحاول التركيز فيه ما أمكن على أهم الجوانب المالية والاقتصادية في الدول الفيدرالية من خلال الجمع بين الجوانب النظرية والتطبيقية في بعض نماذج الفيدرالية العالمية ومحاولة إيجاد النظام الأفضل للعراق، وحسبنا هنا مجرد المحاولة التي نرجو أن تكون مفيدة للباحثين الآخرين والقائمين على الاقتصاد العراقي.

أولا: الثروات الطبيعية
تمثل الثروات الطبيعية احد أهم مصادر الدخل في العديد من البلدان لاسيما ا ذات الاقتصاد ألريعي وهو ذلك الاقتصاد الذي يعتمد على مصدر وحيد للدخل تقريباً يتمثل بإيرادات الموارد الطبيعية للبلد وبخاصة الثروتين النفطية والغازية وهذا ما يميز الاقتصاد العراقي طبعاً.

ولذلك فأن الصراع على ملكية الثروات الطبيعية المتواجدة في الأقاليم أو الولايات الفيدرالية قد حظي بمساحة واسعة من الجدل والنقاش وأفردت له العديد من الدراسات والمقترحات وجلسات العمل واختلفت المعالجات الدستورية والقانونية لهذا الموضوع باختلاف طبيعة النظام السياسي والاجتماعي للدول الفيدرالية فضلاً عن الطبيعة الاقتصادية لذلك النظام.

ففي الدول الفيدرالية المتقدمة اقتصادياً أصبح موضوع الثروات الطبيعية لا يشكل المصدر الأساس للدخل فيها نتيجة لتنوع النشاطات الاقتصادية المختلفة من ( الصناعة، السياحة والخدمات ) وغيرها ولذلك تم حسم الجدل في معظم تلك البلدان بأن تعود ملكية الثروات الطبيعية إلى الأقاليم أو الولايات التي توجد فيها هذه الثروات كما هو الحال في كـــندا واستراليا وسويسرا([2]), مع بعض الاختلافات بين دولة وأخرى من قبيل ملكية الثروات الطبيعية في المياه الإقليمية التي تعود للحكومة الفيدرالية في استراليا بينما هذه الثروات من ملكية المحافظة ( ( Province المطلة على المياه الإقليمية في حالة كندا في حين تتسع ملكية الثروات الطبيعية لتشمل مصادر المياه أيضا في سويسرا.

إن الأمر لا يقتصر على الدول المتقدمة اقتصادياً والتـي لا يمثل فيها دخـل الثروات الطبيعية ألا جزءً يسيراً من دخلها القومي وإنما يتسع ليشمل الدول الريعية كما أسلفنا والتي يعتبر فيها القطاع النفطي أهم القطاعات الاقتصادية في البلد، ففي هذه البلدان كانت ملكية الثروة الطبيعية تعود للإقليم أو الولاية أيضا كما هو الحال في الإمارات العربية المتحدة، إذ ينص الدستور الإماراتي على أن ملكية الثروات الطبيعية تعود للإمارة التي توجد فيها هذه الثروة([3]), وكذلك الحال في الاتحاد السوفيتي السابق وروسيا الاتحادية حالياً مع بعض الاختلافات إذ تسيطر الحكومة المركزية فعلياً على إيرادات القطاع النفطي الضخم في روسيا.

إن طبيعة المعالجة لملكية الثروات الطبيعية أنما تختلف من دولة لأخرى وذلك بسبب طبيعة تشكيل تلك الدول إذ أن معظم الدول الفيدرالية هي في الحقيقة قد تشكلت من خلال اتحاد مجموعة دول مستقلة أو إمارات مستقلة ولذلك احتفظت كل دولة أو إمارة بملكيتها لثرواتها الطبيعية كجزء من الضمان لتلك الدولة، ويؤدي تقسيم الثروات الطبيعية بهذه الطريقة الى ظهور مشاكل حقيقية وأساسية تتعدى المستوى الاقتصادي للفيدرالية، إلا إننا هنا سنركز فقط على التداعيات الاقتصادية لمثل هذا التوزيع فملكية الثروة الطبيعية للإقليم أو الولاية سيعني تمتع بعض الولايات بدخل قومي اكبر مقارنة بالولايات الأخرى خصوصاً في الدول الريعية كالعراق مما يعني تحسن اقتصاديات بعض الولايات وزيادة دخل الفرد فيها مما يؤدي إلى حدوث عدم التوازن أو الفجوة الاقتصادية "economic gap " بين المستويات المتعددة للحكومات وستمتلك الحكومة المحلية في الإقليم الذي يمتلك الثروة قوة تأثير اكبر في القرارات المركزية وسنشهد في مثل هذه الأوضاع هجرة طبيعية للأفراد باتجاه هذه الأقاليم وتركزاًَ في النشاط الاقتصادي لا يصب في مصلحة الدولة الفيدرالية.

إذن كيف يمكن حل مثل هذه المشكلة، في الحقيقة هناك العديد من الحلول أهمها تحديد نظام المدفوعات للدولة الفيدرالية الذي ينظم حصة كل ولاية في الميزانية الفيدرالية التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الدخل المحلي لكل ولاية وحجم إيراداتها ومصاريفها المتوقعة وكذلك من خلال النظام الضريبي على المستوى الفيدرالي والمحلي الذي سنعالجه لاحقاً.

وفي حقيقة الأمر أن معظم التجارب الفيدرالية في العالم والتي تمكنا من الاطلاع عليها كانت تتضمن تثبيت ملكية الثروات الطبيعية للأقاليم أو الولايات التي تقع تلك الثروات فيها، ولكنها تمكنت من خلال استخدام بعض السياسات والنظم الإدارية والمالية من إعادة توزيع الثروة بشكل أدى إلى تقليص أو تلاشي التباين في دخل كل إقليم.

وإذا ما انتقلنا إلى العراق فأن هذه المسألة تعد من اخطر واهم المسائل الخلافية في موضوع الفيدرالية وتنبع المشكلة الأساسية في هذا المجال من تركز الثروات النفطية والغازية وهي الثروات الطبيعية الأهم والأعلى قيمةً في المناطق الجنوبية والشمالية الشرقية من البلاد في حين تعاني مناطق الوسط والغرب من افتقار واضح لهذا النوع من الموارد الطبيعية.

وفي هذا الإطار يمكن تحديد طريقة توزيع الثروات النفطية والغازية في العراق كالآتي([4]):
أـ النفط : يمتلك العراق احتياطياً هائلاً من النفط الخام يصل إلى 112 مليار برميل ويمثل ما نسبته 11% من حجم الاحتياطي العالمي وهو يمثل ثاني اكبر احتياطي من النفط الخام في العالم بعد العربية السعودية ويتوقع البعض أن يفوق الاحتياطي النفطي العراقي نظيره في دول الخليج إذا ما تم إجراء عمليات البحث والتنقيب في الأراضي العراقية التي لم تخضع لأي مسح جيولوجي كامل ولم تستخدم فيها التقنيات الحديثة الخاصة بالمسح باستخدام المجسات ثلاثية الأبعاد ( 3D seismic) التي يجب أن تحل محل الأساليب القديمة مثل عمليات الحقن المائي (( water injection أو ( flooding) ويحوي العراق 73 حقلاً بترولياً ويتراوح عدد الآبار المنتجة ما بين 1500 – 1700 بئر نفطياً ويتوقع أن تصل عدد هذه الآبار إلى مستوى 100 ألف بئر بعد انجاز عمليات التنقيب، وتمثل الحقول الجنوبية الواقعة في (البصرة والعمارة) عصب الإنتاج والاحتياطي النفطي العراقي إذ تضم هذه الحقول حالياً ما نسبته 75% من احتياطي النفط العراقي ومن أهم الحقول النفطية في العراقي الآتي :
1. حقل الرميلة الشمالي والرميلة الجنوبي وهو يحتوي على أكثر من 663 بئراً منتجاً وبطاقة إنتاجية يمكن أن تصل إلى 3 مليون برميل يوماً.
2. حقل القرنة الغربي وهو بطاقة إنتاجية تصل إلى 225 ألف برميل يومياً ويعد هذا الحقل احد الحقول القابلة للتطور الهائل إذ يمكن أن تصل الطاقة الإنتاجية له بحدود (2 ـ 3) مليون برميل يومياً.
3. حقول مجنون وهي من أضخم حقول النفط في المنطقة إذ تقدر مخزوناتها الاحتياطية بعدة مليارات البراميل النفطية ويتوقع إذا ما تم تطويرها أن تضاعف حجم الإنتاج النفطي العراقي.
4. حقول كركوك وهي من الحقول الضخمة وتنتج احد أجود أنواع النفط العالمية (النفط الخفيف) وبطاقة إنتاجية تصل إلى 5،1 برميل يومياً قابلة للزيادة بمستويات كبيرة مستقبلاً.
5. حقول أخرى أقل حجماً مثل حقل بغداد الجنوبي، حقل الزبير، أبو غراب، أبو رزقان جبل فوقي وغيرها والتي تتراوح الطاقة الإنتاجية لبعضها ما بين (150 ـ 200) ألف برميل يومياً.
ب ـ الغاز الطبيعي : تعد هذه الثروة المصدر البديل للنفط الخام ومصدر الطاقة المستقبلي كما يتوقع العديد من الخبراء ومن المتوقع أن يزداد استخدام العالم للغاز الطبيعي خلال العقود الثلاث القادمة سواءً في توليد الطاقة الكهربائية أو التدفئة أو الصناعات الكيماوية المختلفة ويملك العراق حالياً بحدود (3110) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي أي ما نسبته (2%) من الاحتياطي العالمي وهو بالمرتبة التاسعة في ترتيب الدول الأكثر امتلاكاً للاحتياطيات من الغاز الطبيعي , وتشير إحدى الدراسات الحديثة الصادرة عن وزارة النفط العراقية إلى أن الاحتياطيات المقدرة للعراق قد تبلغ (9250) مليار متر مكعب ووفقاً لهذه الاحتياطيات فأن العراق سيمتلك (6% ) من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي. ووفقاً للدراسة نفسها فإن (83%) من الاحتياطيات تقع في المنطقة الجنوبية وذلك لان اغلب الغاز الطبيعي في العراق هو من نوع " الغاز المصاحب " أي يكون مرافقاً لحقول النفط الخام، علماً أن سعر المليون وحدة حرارية من الغاز يبلغ (2 ـ 3) دولار وهي تعادل 25 متراً مكعباً من الغاز الطبيعي.

إن هذه الصورة المقطعية لتوزيع الثروة النفطية والغازية في العراق لايمكن أن تكون نهائية ومكتملة فاغلب الباحثين المتخصصين والعديد من الدراسات تشير إلى أن معظم الأراضي العراقية يمكن أن تحتوي على خزين هائل من النفط سواءً في إقليم كردستان أو حتى في المناطق الوسطى والغربية ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو الاكتشاف النفطي الأخير في إقليم كردستان الذي باشرت إحدى الشركات الأجنبية بعمليات استخراجه و يتوقع أن تبلغ كمية الإنتاج فيه بحدود (50 ـ 100) ألف برميل يومياً في البداية([5])، ويمكن بعد ذلك تطوير الإنتاج ومضاعفته خلال السنوات الخمس التالية . وهذا البئر يعتبر واعداً جيداً على المستوى العالمي رغم أن تكاليف إنتاج النفط في هذه المنطقة اكبر بكثير من تكاليف إنتاجه في حقول الجنوب العراقي التي لا تتجاوز النصف دولار للبرميل، إلا أن ذلك لا يمنع من إمكانية تطوير الإنتاج ومضاعفته والاهم من ذلك إمكانية اكتشاف المزيد في الحقول النفطية في هذه المنطقة الواعدة. وأرى أن المنطقة الغربية لابد من إن تحتوي على مخزونات مناسبة من النفط الخام خصوصاً إذا ما تم استخدام تقنيات المسح الجوي الحديث وغيرها من الأساليب الحديثة في اكتشاف النفط والغاز الطبيعي.

هذا فيما يتعلق بثروة النفط والغاز الطبيعي ولكن إلا توجد ثروات أخرى طبيعية في العراق؟ الجواب هو نعم ولكن إيرادات بيع هذه الموارد ما زالت محدودة ولا يتوقع أن تشكل دخلاً كبيراً للعراق إذ يمتلك العراق احتياطيات هائلة من صخور الفوسفات وبكمية تصل إلى 2000 مليون طن وتتركز اغلب هذه الاحتياطات في منطقة عكاشات في الصحراء الغربية وهناك كميات مختلفة من الموارد الطبيعية كالغار وأحجار الكلس والرخام والجبس ورمل الزجاج وخامات الحديد والزنك والنحاس يتركز اغلبها في المناطق الغربية من العراق([6]).

والآن يمكن أن نتساءل كيف يمكن أن نوزع ملكــــية هذه الثروات بين الأقاليم والمركز ؟ ومن خلال استقراء التجارب العالمية ونظراً للأوضاع السياسية والاقتصادية الخاصة في العراق، فأن الحل القاضي بملكية الثروة النفطية والغازية للإقليم أو المنطقة التي يتواجد فيها لا يعد مناسباً لحالة العراق وذلك للأسباب الآتية:
1. إن العراق دولة بسيطة في طور التحول إلى دولة فيدرالية وهذا الأمر يناقض معظم التجارب العالمية ولذلك فأن ملكية الثروة الطبيعية كانت تاريخياً لجميع المواطنين في العراق (من الناحية النظرية على الأقل) أي لم تكن هذه الثروة تعود بالأصل لبلد أو إمارة تريد الاندماج مع دولة قائمة أو مجموعة دول لتشكيل دولة فيدرالية وبذلك تكون مطالبها بالاحتفاظ بملكية الثروة مشروعاً لضمان حقوق مواطنيها بل على العكس في حالة العراق فأن شيوع ملكية الثروة الطبيعية (خصوصاً النفط والغاز) سيكون عاملا مساعداً لضمان وحدة العراق وتحقيق المساواة بين كافة أبنائه.

2. إن إيراد الثروة النفطية يشكل ما نسبته 95% من إيــرادات الموازنة الحكومية([7]).وهذا يعني أنه يمثل مصدر الدخل الوحيد تقريباً للحكومة المركزية وسيؤدي حرمان هذه الحكومة من مصدر الدخل هذا تعطيلاً فعلياً لنشاطها ويحدد من قدراتها وتأثيرها مما يعطي قوة اكبر للحكومات المحلية والأقاليم مما يؤدي إلى خلق الفجوة الاقتصادية والهجرة الكثيفة باتجاه هذه الأقاليم.

3. إن الثروة النفطية كما مر علينا سابقاً تتركز في 3 ـ 4 محافظات فقط تتوزع جنوب العراق وشماله وانفراد هذه المناطق بملكية الثروة الطبيعية فيها سيؤدي إلى حرمان باقي المحافظات من الثروة مما يؤدي إلى خلق مشاكل حقيقية تتجاوز المستوى الاقتصادي لتتسع سياسياً واجتماعياً مما يشكل تهديداً حقيقياً لوحدة العراق، يضاف إلى ذلك الصراع المحتدم على الحدود البلدية لكل محافظة إذ أجريت العديد من التعديلات على هذه الحدود من قبيل ضم أقضية أو نواحي إلى محافظات معينة واقتطاع أخرى لتكون تابعة من الناحية الإدارية والتنظيمية لمحافظات أخرى.

4. وإذا علمنا أن طبيعة الحقول النفطية عادة ما تكون مشتركة ليس على مستوى المحافظات فقط وإنما على المستوى الإقليمي أيضا فهناك حقول نفط مشتركة بين العراق والكويت (الرميلة) وبين العراق وإيران وهكذا، فأن ذلك سيخلق مشكلة إضافية نحن في غنى عنها تتعلق بعائدية الحقول المشتركة وحصة كل طرف منها وهذا ما نلاحظه الآن في الصراع على حقول النفط في جنوب السودان الذي لم يحسم حتى الآن بسبب وقوع آبار النفط على الحدود التي تفصل جنوب السودان (الذي يتمتع بحكم ذاتي محدود) وبين باقي الأراضي السودانية، فضلاً عن الصراع السابق على حقول النفط الواقعة على الحدود بين اليمن الجنوبية واليمن الشمالية سابقاًَ أو غيرها من الصراعات الإقليمية والدولية التي تمثل بؤر نزاع وتوتر محتملة والعراق في غنى عن ذلك كله.

اذن من وجهة نظرنا لا يعد هذا الحل مقبولاً أو مناسباً للحالة العراقية على الأقل في المدى المنظور، ويمكن تقديم حلول أخرى ترتكز على نقطة أساسية هي أن (الثروات الطبيعية ملك لكل أفراد الشعب العراقي وتوزع على المحافظات بصورة عادلة وفقاً لعدد السكان وحاجة كل محافظة ) وهذا ما نص عليه الدستور الدائم للعراق في الفقرة (112)([8]).
وهو حل يرضي جميع الأطراف تقريباً ويمثل ضمانة لوحدة العراق وهناك الكثير من التفاصيل المرتبطة بهذا الموضوع والتي تتعلق بإدارة الحقول النفطية والجوانب التنظيمية الأخرى المتعلقة بحقوق الاستثمار والتي يجب أن تنظم بقوانين خاصة.

ويبقى هناك مقترح يمكن أن يساعد في تعزيز شعور المواطنين بملكيتهم للثروة النفطية وتحسين الظروف الاقتصادية لهم ويتضمن الآتي :
1. تسيطر الحكومة الفيدرالية على إيرادات الثروات النفطية والغازية كلها في أي مكان في العراق سواءً المكتشفة منها سابقاً أو التي ستكتشف لاحقاً.
2. تقتطع نسبة 25% من هذه الإيرادات سنوياً لتوَزع كالآتي :
· نسبة 10% تذهب لصندوق خاص توزع إيراداته على المواطنين العراقيين المقيمين في العراق بصورة متساوية تماماً.
· نسبة 10% تذهب لصندوق خاص لتنمية الأقاليم التي تتواجد فيها هذه الثروات وتضاف إلى حصة الإقليم من الموازنة العامة شرط إنفاقها في مجال الخدمات العامة (كالصحة ـ التعليم ـ الاتصالات وغيرها).
· نسبة 5% تذهب لصندوق خاص على غرار صندوق الأجيال في الكويت ويتم تنظيم هذا الصندوق بقانون خاص يحمي هذه المدخرات ويحدد شروط استثمارها وكيفية الانتفاع منها للأجيال اللاحقة.

إن هذا الحل وان كان يقتطع نسبة لا بأس منها من الإيرادات النفطية إلا إنه يستند إلى فكرة أساسية هي وجوب تحول الدولة العراقية من دولة ذات اقتصاد ريعي وحيد الجانب إلى دولة ذات اقتصاد متنوع تكون فيه الإيرادات الضريبية ذات أهمية نسبية أعلى فضلاً عن الإيرادات الأخرى التي يمكن تحقيقها من المنشآت الحكومية والخدمات الحكومية وغيرها.

فضلاً عن ذلك فأن هذا الحل سيؤدي إلى تعزيز ثقة المواطن بمواطنته والإحساس بأنه يمتلك الثروة فعلاً ويستفيد منها بصورة مباشرة ومتساوية مع أي مواطن آخر .

وعلى العموم فإن هذا المقترح يحتاج إلى الكثير من الدراسة والنقاش على المستويات كافة قبل إقراره دستورياً.
[1] . البروفسور باتريك كلين، هيكلية القضاء في الدول الفدرالية، ط جامعة ميك كل (مونتريال كندا).
[2] . مكي ناجي، المحكمة الاتحادية العليا في العراق، الطبعة الأولى- 2007.
[3] . مكي ناجي، المصدر السابق.ص127.
[4]. Arher،D. (The Fiscal Federalism)، Journal of Economic Study، Vol 112 No. 2417، 2005،U.K.
[5]. .www.fdk_cdf.ch. Kurt stadlir ( The Conference of Cantonal Finance Ministers، 2006)
[6] . دستور الامارات العربية المتحدة، منشور على الانترنيت موقع شبكة المحامين.
[7] . د.الفريجي،حيدر ( الجوانب الاقتصادية في فيدرالية الجنوب)، مجلة معا للابحاث، العدد الاول 2005، بغداد – العراق.
[8] . نشرة العراق النفطية العدد11، مركز الشرق للدراسات الاقتصادية، بغداد – العراق 2006.

الجوانب المالية والاقتصادية في النظام الفيدرالي (2)





الجوانب المالية والاقتصادية في النظام الفيدرالي (2)

القاضي قاسم حسن العبودي
Saturday, 10 May 2008
ثانياً: الموازنة الفيدرالية وموازنات الأقاليم
ركزنا في القسم الاول من هذا البحث على الثروات الطبيعية كأول جانب من الجوانب المالية والاقتصادية في الدول الفيدرالية،
ونتطرق هنا الى الجانب الآخر الخاص بالموازنة الفيدرالية وموازنات الأقاليم..
يمكن تعريف الموازنة العامة بأنها (تقدير مفصل ومعتمد لنفقات الدول وإيراداتها لفترة زمنية لاحقة عادة ما تكون سنة واحدة وتحتاج إلى الإقرار من الجهة المخولة في الدولة لتصبح قابلة للتنفيذ)(1 ).
وتعتبر الموازنة واحدة من أهم الوثائق الحكومية لأنها تعكس سياسات الحكومة في مختلف القطاعات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية وغيرها. وهناك العديد من المبادئ العامة التي يجب مراعاتها عند إعداد الموازنة العامة للدولة منها(2):
1. شمولية الموازنة : أي أن الموازنة العامة يجب أن تشمل جميع إيرادات الحكومة وإنفاقاتها فلا يكون مصروف للحكومة خارج الموازنة العامة ولا يتحقق أي إيراد لها إلا ويدرج ضمن الموازنة ويتطلب ذلك إفصاح وشفافية الأجهزة الحكومية.
2. وحدة الموازنة : أي أن تكون لكل دولة موازنة واحدة تحتوي على كل الإيرادات والنفقات إلا أن هذا لايعني عدم إمكانية وجود موازنات متعددة ضمن الدولة الواحدة، وانما يعني وجود موازنة واحدة تجمع كل هذه الموازنات الفرعية.
3. مبادئ عامة: مثل سنوية الموازنة، وضوحها، دقتها، توازنها.
إن الموازنة العامة كوثيقة تعكس السياسة المالية والنقدية للحكومة وتمثل أساس النشاطات المختلفة لها وتحظى الموازنة الحكومية بأهمية خاصة في الدول الفيدرالية بسبب تعدد المستويات الحكومية على المستوى العمودي والأفقي ويؤدي هذا التعدد في المستويات في معظم الأحيان إلى وجود ما يسمى (الفجوة المادية العمودية vertical fiscal gap) و(الفجوة المادية الأفقية Horizontal fiscal gap) وتتحقق الفجوة الأولى عندما يكون هناك خلل ناتج عن عدم التناسق بين إيرادات الحكومة الفيدرالية ومسؤولياتها الانفاقية، في حين تتحقق الثانية عندما يكون هناك خلل أو عدم تناسق بين إيرادات ونفقات كل حكومة من الحكومات المحلية، أي وجود أقاليم ذات إيرادات مرتفعة مقارنةً بالأقاليم الأخرى أو ذات نفقات مرتفعة مقارنةً بالأخرى أو أي من حالات عدم التوازن في الإيرادات والنفقات المحلية والإقليمية ولذلك تحاول الحكومات الفيدرالية تبني برنامج التكافؤ (equalization) بين الأقاليم الذي يستند إلى تعديل التحويلات الفيدرالية (federal - transfers) لتحقيق الفجوة الصغرى في كل إقليم، ويمكن مناقشة مكونات الموازنة الفيدرالية العامة من خلال الآتي :

أـ الإيرادات العامة :
وتمثل كل ما يتحقق للحكومة (الفيدرالية، حكومة الإقليم / الحكومة المحلية) من عوائد مالية نتيجة لتقديمها الخدمات المختلفة أو امتلاكها للموجودات والمصانع أو فرضها للضرائب والرسوم أو أي مصدر آخر للدخل وتواجه الدول الفيدرالية العديد من التحديات الاقتصادية في هذا الإطار، وأهمها تحديد مصادر الإيرادات بمستوياتها المختلفة . ففي هذا المجال يمكن تقسيم مصادر الإيرادات أو الدخل إلى الآتي :
1- إيرادات بيع الموارد الطبيعية التي تشمل كما اشرنا سابقاً الثروات الطبيعية من النفط والغاز، والمعادن، والمواد الخام، المياه وغيرها وقد فصلنا ذلك في مناقشتنا للثروات الطبيعية خصوصاً ما يتعلق بالنفط والغاز.

2- إيرادات الأملاك العامة (الدومين العام) وتشمل كل الموجودات التي تعود ملكيتها للحكومة كالأراضي، العقارات، الغابات والمزارع وغيرها من منشآت البنية التحية كالطرق والجسور وتتحقق عن هذه الملكية إيرادات مختلفة مثل الإيجارات، بيع حقوق الاستخدام الرسوم على استخدام الطرق والجسور وغيرها. وفي هذه الحالات يعود معظم هذا النوع من الإيرادات إلى حكومة الإقليم أو الولاية التي تمتلك المنشآت في أعلاه إذ تبلغ نسبة هذه الإيرادات في سويسرا 40% للإقليم (الكانتون) و36% للحكومة المحلية (الكوميون) و24% فقط للحكومة الكونفدرالية (33) أما في كندا فتبلغ 70% للمحافظة و30% للحكومة الفيدرالية(34). وهكذا ولكن هذا النوع من الإيرادات لا يشكل أهمية كبيرة في معظم الدول الفيدرالية نظراً لشيوع النظام الرأسمالي الذي يحد من الملكية العامة ويشجع على الملكية الخاصة.3- إيرادات بيع المنتجات والخدمات وهذا النوع من الإيرادات يتحقق من خلال قيام الحكومة بتقديم الخدمات للمواطنين أو بيعها لأنواع محددة من المنتجات الصناعية أو الزراعية المملوكة للحكومة وكما هو الحال في إيرادات الدومين العام، فإن معظم هذه الإيرادات تذهب لحكومات الأقاليم والحكومات المحلية إذ تبلغ نسبة هذه الإيرادات 52% على مستوى ال و42% على مستوى الكانتون و6% فقط على المستوى الكونفدرالي في سويسرا، كما تبلغ 85% على مستوى المحافظة و15% على المستوى الفيدرالي الكندي.


4- إيرادات الضرائب وتمثل أهم أنواع الإيرادات في معظم الدول الفيدرالية خصوصاً ذات الاقتصاديات الرأسمالية الصناعية، حيث تشكل معظم إيرادات الحكومات المختلفة التي تصل نسبتها إلى أكثر من 90% في دول مثل الولايات المتحدة / كندا، سويسرا / استراليا، اليابان وغيرها من الدول الصناعية (3 ).

وهنا تبرز أكثر المسائل تعقيداً وهي التي ترتبط بتحديد الأوعية الضريبية المختلفة، الحدود العليا والدنيا، الضرائب الفيدرالية، الإقليمية، المحلية وغيرها من المسائل الشائكة. وقد تعاملت كل دولة فيدرالية بطريقة تختلف عن الدول الأخرى إلى حد ما في هذا المجال ولكن على الأغلب يتم تحديد أنواع الضرائب وهي محدودة على أية حال كالضريبة على الدخل و ضرائب الاستهلاك، والضرائب العقارية، وضريبة الطاقة وغيرها من خلال الدستور أو القوانين الفيدرالية اذ يتم تحديد الضرائب على المستوى الفيدرالي كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، سويسرا، استراليا وألمانيا ويترك المجال للولايات أو المحافظات أو الكانتونات لتحدد الضرائب على مستواها الإقليمي وفقاً لشروط محددة ينص عليها الدستور والقوانين.

ويتسع المجال ليشمل حرية المستويات الحكومية الأدنى على مستوى الكوميون السويسري والجيميدن (Gemeiden) الألماني لفرض أنواع أخرى من الضرائب المحلية وكما قلنا فأن الحدود الدنيا والعليا لكل نوع من أنواع الضرائب، فضلاً عن عائدية إيراداتها تختلف باختلاف الدول الفيدرالية، إذ تشكل ضريبة الدخل 20% من إيرادات المحافظات الكندية و48% من إيرادات الحكومة الفيدرالية الكندية، في حين تشكل 20% من إيرادات الولايات الاسترالية و53% من إيرادات الحكومة الفيدرالية الاسترالية و41% من إيرادات الكانتونات السويسرية و34% من إيرادات الكوميونات و25% من إيرادات الحكومة الكونفدرالية السويسرية .

وينص الدستور السويسري على أنواع الضرائب الخاصة بالحكومة الكونفدرالية ولايمكن للحكومة الكونفدرالية فرض أي نوع آخر من الضرائب ما لم ينص الدستور عليها وقد تكون بعض أنواع الضرائب مشتركة أو متشابهة مثل ضريبة الدخل على المستوى الكونفدرالي ومستوى الكوميون وعندها يتم الالتزام بالحد الأعلى المسموح به للضريبة وفقاً للدستور وإذا أرادت الحكومة الكونفدرالية فرض ضرائب جديدة أو زيادة الحدود العليا للضرائب المنصوص عليها دستورياً فإنها ستكون بحاجة الى تعديل دستوري.

أما على مستوى الكانتون فهو حر في فرض أي أنواع جديدة من الضرائب ماعدا محدِد أو قيد وحيد وهو أن لاتكون هذه الضريبة خاصة بالحكومة الكونفدرالية وفقاً للدستور كما يكون الكانتون حراً في تحديد تفاصيل الضريبة وتعديل مستوياتها ويشترك الجمهور عادة في هذه العملية من خلال التصويت المباشر وتستمر تفاصيل النظام الضريبي السويسري على مستوى الكوميون إذ يتم تحديد حصة كل كوميون من ضريبة الكانتون على شكل نسبة مئوية من الضريبة تختلف باختلاف نوع الضريبة وباختلاف الكانتونات ويمكن تعديل ذلك سنوياً. علماً ان سويسرا تضم 26 كانتوناً وأكثر من 3000 كوميون. في حيث يتم توزيع الضرائب في المانيا بحسب المستويات الحكومية الثلاث الحكومة الفيدرالية Band، والولايات Lander والحكومة المحلية Gemeidenووفقاً لمستويات محددة قانونياً، فهناك 75% من الضرائب المشتركة shared taxes بين المستويات الثلاث بينما 25% من الضرائب تكون خاصة own taxes بالحكومات على مستوى الولايات والحكومات المحلية(4 ).ان الاختلاف في معدلات الضريبة على مستوى الأقاليم والمحليات قد يخلق مشاكل كثيرة تتمثل بهجرة رؤوس الأموال والأفراد من المناطق ذات الشريحة الضريبية الأعلى إلى المناطق ذات الشريحة الضريبية الأدنى مما يؤدي إلى خلق نوع من عدم التناسق الاقتصادي أو التمايز الطبقي وهو ما تحاول أن تقضي عليه كل النظم الفيدرالية عن طريق إعادة توزيع الدخول ونظام التكافؤ(37) الذي سنتناوله بنقاش خاص لاحقاً.

وهكذا تكون لدينا إيرادات على مستوى الحكومة الفيدرالية، الحكومة الإقليمية والحكومة المحلية وتتجمع هذه الإيرادات لتشكل الوعاء الأساس لنشاطات كل حكومة ونظراً لاختلاف الأنظمة الضريبية واختلاف مصادر الدخول على كل مستوى من المستويات المشار إليها في أعلاه فأن إيرادات كل مستوى حكومي ستكون مختلفة، إذ تشكل الإيرادات المحلية ما نسبته 66% من مجموع إيرادات الولايات الاسترالية في حين تشكل 71% من مجموع إيرادات المحافظات الكندية (37) وهذا ما يشير إلى الاستقلالية الأكبر للمحافظات الكندية، فهناك علاقة طردية بين درجة الحرية الفيدرالية وبين نسبة الإيرادات المحلية المتحققة لكل إقليم أو ولاية والعكس صحيح، فكلما كانت درجة المركزية أعلى كما كانت الإيرادات الفيدرالية اكبر ويوضح الشكل الآتي هذه العلاقة:

(حصة الحكومة الفيدرالية من العوائد الخاصة)

ومن خلال الشكل في أعلاه نستطيع الاستنتاج بأن درجة المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية هي اكبر من مثيلاتها الكندية والسويسرية أي أن الحكومات المحلية والإقليمية في كل من كندا أو سويسرا تمتلك حقوقاً مالية اكبر مقارنةً بالولايات الاسترالية والأمريكية ولذلك نجد ان الحكومات الفيدرالية لا تحظى الا بنسب منخفضة نسبياً من الدخل في كندا وسويسرا مقارنةً بالولايات المتحدة الأمريكية وهذا الأمر يؤدي إلى تحمل الحكومات المحلية لمسؤوليات مالية اكبر تماشياً مع حقوقها المالية وهذا ما سنعرضه في الجانب الثاني من الموازنات الفيدرالية وهو النفقات.

ب ـ النفقات العامة : وهي كل مصروف حكومي ينفق وفقاً للقانون وتحقيقاً لمصلحة عامة (38) وتتنوع أوجه الإنفاق الحكومي في الدول البسيطة والفيدرالية وكما هو الحال مع الإيرادات يمكن تقسيم النفقات وفقاً لتبويبات مختلفة وكالآتي(39):
1- التبويب الإداري : يتم على أساس توزيع النفقات على الوحدات الإدارية داخل الدولة فتوزع الاعتمادات على الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى وتحدد وفقاً لهذا التبويب مسؤولية الوحدة الإدارية بالصرف في ضوء الحدود المتفق عليها في الموازنة.

2- التبويب القطاعي: يستخدم هذا التبويب لتوضيـح تقسيم النفقات حسب الاستخدام إذ يتم تحديد النفقات الخاصة بقطاع التعليم، وقطاع الصحة، والقطاع الصناعي بغض النظر عن توزع هذه الأنشطة بين الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة.

3- التبويب الاقتصادي : يتـم تبويب النفقات على أساس نوع النفقة إذا كانت جارية أو رأسمالية (استثمارية)، ويمكن تمييز النفقة الجارية عن الاستثمارية كونها دورية ومتكررة خلال مرحلة الموازنة كالراتب والمستلزمات السلعية والخدمية وقطع الغيار ونفقات الصيانة وغيرها بينما تكون النفقة الاستثمارية متحققة لمرة واحدة مثل بناء مصنع او محطة طاقة كهربائية، كما أن الأولى ذات إنتاجية منخفضة على عكس الثانية وتوجه النفقات الاستثمارية نحو البنية التحتية من الإنشاءات والتعمير والموجودات الإنتاجية.

4- التبويب الإقليمي (الجغرافي) : وهو التبويب الذي يفصل بين النفقات العامة للحكومة المركزية الفيدرالية في جهاز الدولة والنفقات العامة للإدارات والحكومات الإقليمية والمحلية وهذا النوع من التقسيم هو الذي يهمنا هنا على الرغم من تداخل التقسيمات والتبويبات في اغلب الموازنات الفيدرالية، إذ يمكن أن تجمع الموازنة بين أكثر من نوع واحد من التبويبات أي أن تكون مبوبة حسب الأقاليم وفي نفسه الوقت بحسب القطاعات أو الوزارات وهكذا.

وبالعودة للتبويب الإقليمي للنفقات العامة، فأن الدول الفيدرالية واستناداً الى دساتيرها او قوانينها المالية المختلفة اختلفت في تحديد طريقة توزيع النفقات بين الحكومة الفيدرالية والأقاليم، إلا انه وبصورة عامة يمكن أن نرصد التقييم الآتي للنفقات من خلال التجارب الفدرالية التي تناولناها في الدراسة :
1- النفقات على المستوى الفيدرالي: وهي النفقات ذات الطبيعة العامة والمرتبطة بالبلد ككله مثل نفقات الدفاع، والضمان الاجتماعي، ونفقات الموظفين الفيدراليين ونفقات بعض المشاريع الفيدرالية ذات النفع العام التي تختلف باختلاف الدول الفيدرالية.
2- النفقات على مستوى الحكومات الإقليمية والمحلية : وهي كل النفقات الخاصة بالإقليم والحكومة المحلية التي ترتبط بالسكان المقيمين في هذا الإقليم كالتعليم، والصحة ، والقضاء وغيرها من المشاريع الخدمية.
3- النفقات المشتركة: وهي نوع خاص من النفقات لبعض المشاريع الخاصة التي تشترك فيها الحكومة الفيدرالية مع حكومة الإقليم أو عدد من حكومات الأقاليم لتنفيذ المشروع وبنسب إنفاق مختلفة يتم الإنفاق عليها بين المستويات الحكومية المختلفة.

وإذا عدنا للتجارب الفيدرالية، فأن الحكومة الفيدرالية في ألمانيا تكون مسؤولة عن النفقات ذات الطبيعة العامة المرتبطة بالبلد ككله مثل النقل العام، الخدمات الاجتماعية الأمن الفيدرالي، في حين تكون الحكومات على مستوى اللاندر مسؤولة عن تحمل كافة نفقاتها العامة المتعلقة بتقديم الخدمات في الولاية مثل التعليم، الصحة، القضاء وغيرها، أما المستوى المحلي فتكون حكوماته مسؤولة عن النفقات الخاصة ببناء الشوارع، المدارس، الخدمات الصحية المحلية، الطاقة وغيرها من الخدمات المحلية وهناك تداخل واضح بين النفقات على المستويات الثلاث من الناحية التطبيقية ولذلك يتم حل التعارض في أية حالة من حالات الانفاق عن طريق الآليات الحكومية المعتمدة مثل مجلس وزارة المالية للولايات وغيرها من الآليات.

وتساهم الحكومة الفيدرالية في تمويل ما نسبته 50 – 60% من بعض المشاريع المشتركة في الولايات مثل بناء الجامعات، والبنية الاقتصادية المحلية والمشاريع الزراعــية( 5).

أما في سويسرا فتتحمل الحكومة الفيدرالية ما نسبته 100% من نفقات الشؤون الخارجية وأكثر من 90% من نفقات الدفاع الوطني و49% من نفقات النقل والطرق وبحدود 33% من إجمالي النفقات العامة في سويسرا أما حكومة الكانتونات فتتحمل ما نسبته 66% من نفقات الخدمات العامة التي تتضمن الشرطة، والقضاء، والإطفاء وغيرها و38% من خدمات الضمان الاجتماعي كالتأمين الصحي والمساعدات الاجتماعية و58% من الخدمات الصحية وما نسبته 41% من إجمالي النفقات في سويسرا وأما الكوميون فهو الآخر يتحمل ما نسبته 51% من النفقات الثقافية والرياضية و40% مـن النفقات الصحية و61% مــــن نفقات حماية البيئة أو ما مجموعه 27% من النفقات الإجمالية في سويسرا. أما الحكومات المحلية فتتحمل 73% من مجموع نفقاتها في حين تتحمل الحكومية المركزية 27% من مجموع النفقات فقط( 6).

وهكذا فالصيغة العامة للنفقات لمعظم التجارب الفيدرالية تركز على الآتي :
1- فصل النفقات العامة ذات الطبيعة الفيدرالية عن تلك النفقات ذات الطبيعة الأكثر خصوصية التي ترتبط بالولاية أو المجتمع المحلي.
2- تحديد نسبة مساهمة كل مستوي من المستويات الحكومية في تمويل كل نوع من أنواع النفقات.
3- بعض النفقات تتحملها الحكومة الفيدرالية منفردة مثل الدفاع / الشؤون الخارجية أما البعض الآخر فتتحملها الحكومات الإقليمية أو الحكومات المحلية وفقاً لقوانين كل دولة فيدرالية.
4- هناك العديد من المشاريع المتداخلة التي لايمكن الفصل فيها عملياً بين المستويات الحكومية لذلك يتم تمويلها بصورة مشتركة من لدن هذه المستويات.
وكما هو الحال مع الإيرادات فأن توزيع النفقات بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم يتناسب بصورة طردية مع زيادة درجة اللامركزية فكلما كانت درجة اللامركزية اكبر كانت نسبة النفقات ذات الطبيعة الخاصة (نفقات محلية من إيرادات محلية) اكبر والعكس صحيح ويوضح الشكل الآتي:

نسبة مساهمة الحكومة المركزية في النفقات المباشرة

ويتضح من خلال الشكل في أعلاه بان درجة اللامركزية في كل من كندا وسويسرا هي اكبر من درجة اللامركزية في الولايات المتحدة واستراليا.

وتجدر الإشارة إلى أن الصين وعلى الرغم من أنها دولة غير فيدرالية والنظام الاقتصادي هو نظام اشتراكي يتبع التخطيط المركزي الا انه اخذ يتجه وبسرعة نحو اللامركزية الاقتصادية، وقد أصبحت المقاطعات الصينية في السنوات الاخيرة اكثر تحررا مما سبق بحيث وصل الامر ان تساهم الحكومة المركزية الصينية 27% فقط من نفقات الحكومات المحلية للمقاطعات عام 1996 وهي الادنى مقارنة بالنماذج الفيدرالية المذكورة سابقاً وقد ساهم ذلك بشكل كبير في نمو وتطور الاقتصاد الصيني(7 ).

...........................
مصادر القسم الثاني
1 . د. العلي ، ماجد محمد (الثروات الطبيعية في العراق ) ، مطبعة الموصل ، العراق 199.
2 . موازنة العراق للعام 2006 ، وزارة الملية.
3 . دستور جمهورية العراق الدائم ، الجمعية الوطنية العراقية ، اب 2005
4 . متولي ، محمد سعيد ، الموازنات الكومية ، الاهرة ، مطبعة القاهرة 1985.
5 . Steven ، Rose ،M. Public Finance ، New York ، 1993
6 . www.fdk_cdf.ch (Ibid)
7Stewart، K.(The Fiscal olicy in Canda)،
www.Fedalismnetwork.net

الجوانب المالية والاقتصادية في النظام الفيدرالي (3)


الجوانب المالية والاقتصادية في النظام الفيدرالي (3)

القاضي قاسم حسن العبودي
Monday, 12 May 2008
وصلنا في القسم السابق من هذا البحث الذي يتناول الجوانب المالية والاقتصادية للنظام الفيدرالي الى مناقشة مكونات الموازنة الفيدرالية العامة من خلال الآتي
الايرادات العامة والنفقات العامة ، ونتناول هنا المكوّن الثالث وهو نظام التكافؤ..

جـ - نظام التكافؤ equalization system :
يؤدي تبني النظام الفيدرالي في معظم الأحيان إلى إيجاد نوع من عدم التوازن بين الإيرادات والنفقات سواءً على المستوى العمودي(بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية) أم على المستوى الأفقي (بين حكومات الأقاليم المختلفة).

ويرجع سبب ذلك في الأساس كما ذكرنا الى تبني دستور ينص على سيطرة الحكومات المحلية على معظم الإيرادات المتحققة فيها كما تتحمل هذه الحكومات معظم النفقات الخاصة بها، ولذلك ينشأ عن هذا النوع من النظم الحكومية ما يطلق عليه بالفجوة المادية العمودية والفجوة المادية الأفقية، وهذه المشكلة كانت ومازالت تؤرق السياسيين والاقتصاديين في هذه البلدان ووجدوا ان الحل الأمثل يتحقق من خلال ما أصبح يطلق عليه نظام التكافؤ أو التعديل الذي يمكن تعريفه بأنه النظام الذي يستخدم لتحقيق التوزيع العادل للإيرادات والنفقات بين الحكومات المركزية والإقليمية من جهة وبين حكومات الأقاليم من جهة أخرى ويستند هذا النظام اصلاً الى ما يسمى بالتحويلات المالية الحكومية، فالتحويلات المالية من الحكومات الفيدرالية إلى الحكومات المحلية أصبحت تعتبر أمرا شائعاً في الدول الفيدرالية تستخدم لإغراض عديدة فقد تكون عبارة عن استجابة فعالة لعدم تناسق الإيرادات والنفقات، والاهم قد تكون أداة فعالة تستخدم لتحقيق الأهداف السياسية المختلفة على المستوى الفيدرالي وإحدى استخداماتها هي لتحقيق المساواة في القدرة المادية للمناطق المختلفة لتجنب هجرة الأفراد والشركات ورؤوس الأموال بين المناطق ولتحقيق العدالة الأفقية والعمودية في النظام ككله كما تستخدم لتحقيق المعايير القومية للبرامج الاجتماعية على المستويات كافة ولتحقيق التكافؤ في النظام الاقتصادي الفيدرالي ككل([1]).

وهنا لابد أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي انه بالرغم من نص معظم دساتير البلدان الفيدرالية على امتلاك الأقاليم لإيراداتها الخاصة ومسؤوليتها عن نفقاتها التي تؤمن الخدمات للسكان في تلك الأقاليم بصورة مناسبة ألا أننا نجد أن واقع الأمر مختلف إلى درجة كبيرة جداً على الأرض فهناك التزام بما يعرف (بتحقيق معايير حياة متساوية) لكل السكان في الدولة الفيدرالية أينما كانوا في أي إقليم وبذلك نشأ نوع من النظم التي تقوم على التنازل عن حقوق بعض الولايات الأكثر ثروة بإيراداتها وتحويلها إلى الحكومة المركزية أو إلى حكومات الأقاليم الأقل ثروة بصورة مباشرة لتغطية العجز في النفقات ويتم ذلك عبر آليات مختلفة في الدول الفيدرالية مثل مجلس وزراء المالية الألماني، وهنا نجد أن الحكومات الإقليمية والمحلية تتخلى عن صلاحياتها لصالح الحكومة الفيدرالية في سبيل تحقيق الأهداف الاقتصادية على المستوى القومي، وليس على المستوى الإقليمي أو المحلي فقط وعلى الرغم من أن الدولة تبقى فيدرالية من الناحية الدستورية إلا إنها تكون اقرب إلى الدولة البسيطة أو المركزية من الناحية الإدارية والمالية .

وبذلك تكون مرحلة الدول الفيدرالية خطوة باتجاه الوصول إلى الدولة البسيطة والمركزية ولكنها قائمة على العدالة الاقتصادية والاجتماعية التامة فلا يمكن القبول بوجود مناطق تحظى بمستويات مرتفعة من الدخل والخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية في حين تعاني مناطق أخرى من الفقر والتخلف والإهمال داخل الدولة الفيدرالية نفسها على الأقل من ناحية السياسة الحكومية وسعي الحكومة الفيدرالية إلى إيجاد حالة من التوازن بين الأقاليم المختلفة.

وهذا ما لاحظناه في معظم التجارب الفيدرالية التي تمكنا من دراستها خلال فترة زمنية صغيرة وبإمكانات محدودة على أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحليل والبحث في المستقبل.

وبالعودة إلى هذه التجارب نجد أن ألمانيا كانت تعاني من هذه المشكلة ولكن بحدودها الدنيا، ولكن توحيد الألمانيتين في تسعينات القرن الماضي أدى إلى اقتطاع جزء كبير من عوائد الولايات الأخرى لتوجيهها نحو الولايات الألمانية الشرقية ومع ذلك فأن حجم التحويلات بين الحكومات يبقى صغيراً نسبياً ويرجع ذلك إلى أن نسبة عالية من مصاريف اللاندر يتم تغطيتها من خلال العوائد المشتركة بين الحكومات([2]) وكما ذكرنا سابقاً.

ويستند نظام التكافؤ في ألمانيا إلى أساس دستوري ينص على العمل على تحقيق معايير حياة متماثلة لجميع السكان الألمان. وهذا المبدأ يعلو على النصوص الأخرى التي نصت على أحقية كل ولاية بإيراداتها وتحملها لنفقاتها.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية فأن حجم هذه التحويلات يكون كبيراً وهي تمثل نسبة اكبر من نفقات كل ولاية إلا انه في كثير من الأحيان تكون هذه التحويلات مشروطة من ناحية تحديد مجال الإنفاق أو حجمه أو أية شروط اقتصادية أخرى مما يستدعي من الولايات العمل على تحديد أسبقياتها الاقتصادية بدقة وحذر وفي حقيقة الأمر لا يوجد نظام حقيقي للتكافؤ الاقتصادي في أميركا وذلك نجد أن هناك تبايناً في الوضع الاقتصادي بين ولاية وأخرى إلا أن الأمر يعالج من خلال الأجهزة الفيدرالية الأمريكية كما يعالج من خلال سيطرة الحكومة المركزية على نسبة كبيرة من مصادر الدخل الضريبي خاصة ولذلك فهي تتحمل نفقات اكبر على المستوى الفيدرالي أي أن حكومات الولايات الأميركية أن تتحمل نسبة عالية من النفقات ولذلك لن تكون بحاجة كبيرة إلى التحويلات من الحكومة الفيدرالية كما ان الولايات تدفع ضرائب اكبر مقارنة بالولايات الأفقر.

أما في كندا فأن درجة اللامركزية اكبر مقارنة بألمانيا والولايات المتحدة ولذلك تم تبني نظامين لتحويل الأموال بين المستويات الحكومية المختلفة الأولى يدعى اختصاراً بـ CHST.وهو مختصر لـ( The Canadian Health and Social Transfer) أو التحويلات الصحية والاجتماعية الكندية التي تسعى إلى تحقيق مستوى متماثل من هذه الخدمات لجميع الكنديين إذ يتم تعويض المحافظات الكندية ذات الطاقة الايرادية الأدنى وفقاً لمستوى معياري محدد على المستوى القومي الكندي .

أما النظام الثاني فهو نظام التكافؤ العام الذي يستثني عوائد النفط والغاز الموزعة بصورة غير متساوية([3]) على المحافظات كما مر سابقاً أثناء مناقشتنا لموضوع الثروات .

وضمن هذا الإطار تبلغ نسبة التحويلات المالية الفيدرالية بحدود 18% من إيرادات المحافظات الكندية([4])، كما أن الحكومات المحلية الكندية تحظى بتحويلات من الحكومة الفيدرالية تصل نسبتها إلى 1,3% من مجموع إيراداتها كما تتلقى ايضاً تحويلات من حكومة المحافظة بنسبة تصل الى14,6% من مجموع إيراداتها مقارنة باستراليا التي تتلقى حكومات الولايات فيها ما نسبته 44% من إيراداتها على شكل تحويلات فيدرالية في حين تتلقى الحكومات المحلية الاسترالية ما نسبته 7,4% من إيراداتها من التحويلات الفيدرالية و4,6% فقط من التحويلات المالية من حكومات الولايات.

أي أن التحويلات تمر بثلاثة مستويات من الحكومة الفيدرالية إلى حكومة الولاية أو المحافظة ومن حكومة الولاية أو المحافظة إلى الحكومة المحلية وكذلك من الحكومة الفيدرالية إلى الحكومة المحلية ايضاً وتوضح الأشكال (3، 4، 5) هذه التحويلات.

كما تتبنى سويسرا نظاماً معقداً للتكافؤ يتضمن استلام الحكومة الكونفدرالية لجزء من إيرادات الكانتونات وإعادة توزيعها على الكانتونات الأخرى وتختلف نسبة تحويلات الحكومة الفيدرالية إلى حكومات الكانتونات حسب نوع النفقات إذ تتراوح ما بين 5% إلى 42% بحسب نوع النفقة كما يتم استخدام النظام الضريبي بصور فعالة جداً لتحقيق التكافؤ بين الكانتونات إذ يتم فرض نسبة اعلى من الضريبة على الكانتونات ذات الدخول الأعلى كما تحصل الكانتونات الصغيرة على حصة اكبر من الضرائب ولاتقوم بتحويل إلا جزء اصغر من هذه الضرائب الى الحكومة الكونفدرالية([5]). وهكذا نجد أن نظام التكافؤ في البلدان الفيدرالية يقوم على الآتي :
.1 محاولة تقليل عدم التماثل في إيرادات ونفقات الحكومات على المستويات المختلفة وبالتالي القضاء على الفجوة المادية العمودية والفجوة المادية الأفقية.
.2 محاولة الوصول إلى تحقيق معايير حياة متماثلة لكل السكان في أي مكان في الدول الفيدرالية .
.3 يقوم على تحويل
الأموال من الحكومة الفيدرالية إلى كل من الحكومة الإقليمية والحكومات المحلية كما يتم تحويل الأموال من الحكومات الإقليمية إلى الحكومات المحلية وبنسب وطرق مختلفة تعتمد على وضع كل دولة.

.4 إن الإقليم الأغنى يقوم بتحمل جزء إكبر من الأموال التي يتم تحويلها أما بصورة مباشرة إلى الحكومة الفيدرالية أو حكومات الأقاليم الأخرى أو بصورة غير مباشرة إلى حكومات الأقاليم عبر الحكومة الفيدرالية، وعن طريق آليات مختلفة أما التحويل المباشر أو باستخدام النظام الضريبي متعدد الشرائح.

.5 أن هذا النظام يؤدي إلى تقليل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين المناطق مما يساعد في معالجة العديد من المشاكل التي قد تنشأ نتيجة لوجود التمايز الاقتصادي والاجتماعي بينها، وهو في الحقيقة يؤدي إلى تخلي الولايات والأقاليم عن بعض حقوقها الدستورية من اجل تحقيق مبادئ تعد أسمى وأعلى أهمية وتصب في تحقيق الأهداف القومية وبالتالي تقليــل أو القضاء على النزاعات الانفصالية والتحرك نحو المركز بدلاً من التحرك بعيداً نحو الأطراف إلا أن ذلك لا يمنع من تمتع الولايات بكافة حقوقها السياسية وحريات مواطنيها وفقاً للدستور فهو اقرب إلى ما يمكن أن نطلق عليه الحكومة الديمقراطية الاشتراكية التي تستطيع أن تجمع بين مزايا مبادئ الحرية والديمقراطية السياسية الليبرالية ومزايا الاشتراكية الحقيقية التي تعني توزيع الثروة بشكل عادل بين المواطنين وليس توزيع الفقر عليهم كما حدث فعلاً في دول الاتحاد السوفيتي السابق وأوربا الشرقية.

مصادر القسم الثالث
[1] Peter,S.&Jon,R. (The Taxes Impact in Financial Development), Journal of Finance oct. 1997.
[2]. www.fdk_cdf. ch. (Ibid)
[3] Eckhhard Wurzel, (toward More Efficient Government : Reforming Federal Fiscal Relations in Germany), organization , Economic Department, Feb.1999.
[4]. John , Tomenthol, (how can Fixed the Fiscal gap in federal economy), The IMF working paper, July 2002.
[5]. Inter governmental Fiscal Relations , chines system in perspective , virek.B.& Arone& Join N. IMF W.P. 124 oct.1997.

التعددية الحزبية في العراق الواقع والممارسة

التعددية الحزبية في العراق الواقع والممارسة

القاضي قاسم حسن العبودي
التعددية الحزبية نظرة تاريخية: ان نشأة الأحزاب السياسية تعود الى عام 1850 حيث لم تكن الأحزاب السياسية معروفة قبل ذلك، وهناك شبه إجماع على أن الأحزاب السياسية حديثة الظهور نسبياً، الا ان كلمة الأحزاب استخدمت في التاريخ القديم ووردت لفظة الأحزاب في القرآن الكريم بكافة تصاريفها (19) مرة.على ان هناك أصلين للأحزاب، الأصل الانتخابي والبرلماني، والأصل غير الانتخابي وغير البرلماني، أو الأصل الخارجي وهو ما أطلق عليه (الأحزاب الداخلية المنشأ والأحزاب الخارجية المنشأ)، وهذه التقسيمات هي تقسيمات الكاتب السياسي الفرنسي (موريس ديفرجيه) في كتابه (الأحزاب السياسية) والتي اعتمدت لدى الكثير من الباحثين والسياسيين.يقُصد بالأحزاب ذات الأصل البرلماني والانتخابي تلك التي نشأت خلال قيام جماعات وتكتلات داخل البرلمانات، ثم تكوين لجان انتخابية هدفها العمل من أجل إعادة انتخاب تكتل برلماني معين، ثم حدوث اتصال وتفاعل بين هذه الجماعات واللجان، وتعتبر معظم الأحزاب التي نشأت قبل عام 1900 من هذا النوع، أما الأحزاب ذات الأصل غير الانتخابي أو البرلماني (الخارجية المنشأ) فهذه ظهرت كحصيلة تطور عمل بعض الجمعيات أو النقابات أو الاتحادات، ويمكن القول أن معظم الأحزاب السياسية التي ظهرت في القرن الحالي قد نشأت من خارج البرلمانات، فقد عملت العديد من الجمعيات والنقابات العمالية وحتى الكنائس الدينية الى تشكيل أحزاب سياسية، ويمكن الإشارة في هذا المجال الى دور الجمعية (الفابية) في نشأة حزب العمال البريطاني الذي لا زال قائماً حتى الآن.أسباب تعدد الأحزاب: لعل من أهم اسباب تعدد الأحزاب في دولة ما هو وجود تعددية عرقية وإثنية ودينية وطائفية فيها، فكل فئة من هذه الفئات تسعى لضمان حقوقها من خلال النفوذ السياسي المتمثل في الوصول الى مراكز السلطة وقد ساهم تبني بعض الدول الديمقراطية لنظام التمثيل النسبي والانتخاب غير المباشر في تعزيز أو في نشوء ظاهرة التعددية الحزبية، حيث وفق نظام التمثيل النسبي لا يتم هدر الأصوات وتتمثل الأقليات داخل البرلمان أو المجالس المحلية بنسبة مساوية الى حد ما الى حجمها الحقيقي.وهو ما قد يلاحظ في كثير من الدول كأسبانيا وإيطاليا وتركيا التي تبنت نظام التمثيل النسبي.وعلى العكس من ذلك يلاحظ أن تبني نظام الأغلبية والانتخابات المباشرة أدى الى ظهور الثنائية الحزبية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إذ تتمحور كل القوى حول حزبين كبيرين غير عقائديين ولا يمثلان طائفة بعينها أو فئة معينة، وغالباً ما تتركز برامجها السياسية على المساومة.فضلاً عن الاستفادة من ظروف كل مرحلة والتغيير وفق متطلباتها، وبعبارة أخرى غالباً ما يكون هذان الحزبان أكثر واقعية من الأحزاب ذات الإيديولوجية العقائدية.وهنا قد يفاجئ القارئ بأن في بريطانيا على سبيل المثال هناك أحزاب صغيرة غير الحزبين المعروفين (حزب المحافظين وحزب العمال) مثل حزب الأحرار، والحزب الشيوعي، والحزب التقدمي.وفي أمريكا أيضاً هناك أحزاب صغيرة غير الحزبين الرئيسيين (الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) مثل حزب الفلاحين، وحزب العمل، والحزب الاشتراكي، والحزب التقدمي. وعلى الرغم من اختلاف النظام السياسي في كل من الدولتين، حيث تبنت بريطانيا النظام النيابي بينما تبنت الولايات المتحدة الأمريكية نظاماً رئاسياً الا إن الثنائية الحزبية ظلت مسيطرة في كل من هاتين الدولتين ولم تفلح الأحزاب الصغيرة التي ذكرناها آنفاً من منافسة هذين الحزبين على الرغم من أن حزب الأحرار في بريطانيا قد استطاع وعلى الدوام من دخول البرلمان والحصول على بعض المقاعد فيه ولكنها وفي كل الأحوال لم تكن ذات تأثير داخل البرلمان البريطاني ولم تؤهله لتشكيل حكومة.وفي النتيجة فأن المناخ الرأسمالي السائد في تلك الدولتين قد أدى الى استقطاب هذين الحزبين لمصالح رجال الأعمال والشركات الكبيرة التي دعمت بشكل كبير مرشحي هذين الحزبين في الوصول الى السلطة، وبالامكان تخيل أهمية هذا الدعم اذا ما علمنا ان كلفة الدعاية الانتخابية لآخر منافسة على الرئاسة الأمريكية قد بلغت ما يقارب مليار دولار أمريكي.وبسبب تناوب هذين الحزبين على السلطة فان هناك شبه اتفاق غير مكتوب يقضي بان يخصص الحزب الذي يصل الى السلطة مناصب حكومية للحزب الآخر كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه أصبحت هذه الثنائية السمة الغالبة للثقافة السياسية في هاتين الدولتين، حتى شاع القول المشهور (أن ليس هناك أكثر من حلين لكل مشكلة مهما كانت كبيرة).التعددية الحزبية في العراق:بلا شك ان لا أهمية لتعدد الأحزاب اذا لم يكن هناك مناخ ديمقراطي كما هو الحال في الأمثلة السالفة، وقد قال أفلاطون: ان الديمقراطية كالثوب الذي تزينه ألوان الزهر المتعددة.ولم يشهد العراق كما هو معروف مناخا ديمقراطياً يسمح بالتعددية السياسية فضلاً عن التعددية الحزبية، فمنذ انقلاب 1968 احتكر حزب البعث السلطة في العراق ولم يكن أي تداول للسلطة، وشمل نمط الحزب الواحد كل جوانب الحياة في العراق، ولعل من الطريف أن اذكر ان بعض أساتذتنا في كلية القانون سامحهم الله ابتدعوا نظرية لم ينزل الله بها من سلطان لتصنيف النظام السياسي السائد في العراق وتمييزه عن نظام الحزب الواحد اسموها نظرية (الحزب القائد) وهنا بلغت الشمولية قمة الاستخفاف بالعقل الإنساني، ولا أدري ان كانت هذه النظرية لا زالت تدرس ضمن منهج النظم السياسية في كليات القانون والسياسة في العراق، ولكن يبدو أن هذه النظرية لم تفلح في إقناع حتى رموز النظام السابق، وفي محاولة منه لتزيين صورته قام النظام السابق بسن قانون للأحزاب برقم 30 لسنة 1991 وحاول الاتصال ببعض الأشخاص لتأسيس أحزاب شكلية على غرار النمط الموجود في مصر وقيد بموجب هذا القانون الأحزاب المراد تأسيسها بجملة من القيود التي من شأنها أن تجعل من تأسيس تلك الأحزاب أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد ان لم يكن مستحيلاً. أسباب التعددية الحزبية في العراق:كما هو الحال في الأمثلة آنفة الذكر فان تنوع مكونات المجتمع العراقي أدى الى ظهور التعددية الحزبية في العراق، وعلى خلفية هذا التنوع نشأت أحزاب قومية كالأحزاب الكردية والتركمانية، وأحزاب دينية سنية كالحزب الإسلامي الذي هو امتداد للإخوان المسلمين في العراق، وأحزاب دينية شيعية كحزب الدعوة الإسلامية وحزب الله ومنظمة العمل الإسلامي وأحزاب أخرى شيعية صغيرة عملت مع الأحزاب الكبيرة تحت مظلة ما يعرف بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الى فترة قريبة قبل أن تنفصل عنه. هذا فضلاً عن وجود الأحزاب القومية العربية كحزب البعث والحزب الناصري وهناك أحزاب نشأت نتيجة انتشار الفكر الماركسي في النصف الأول من القرن العشرين كالحزب الشيوعي العراقي.وقد ساعد القمع الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية في العراق على ازدياد التكتل الطائفي والقومي.ويمكن إضافة سبب آخر لازدياد عدد الأحزاب في العراق خاصة بعد انهيار النظام الدكتاتوري الى تفكك الأحزاب الكبيرة نتيجة للأزمات الأيديولوجية ولضعف التنظيم (اللامركزية)، فقد عانى الحزب الشيوعي العراقي أزمة الأيديولوجية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية وتراجع الفكر الماركسي مما أدى الى تفكك الحزب الشيوعي وظهور عدة أحزاب منه، كالحزب الشيوعي الكردستاني والحزب الشيوعي العمالي.وهنا يمكن ملاحظة مسألة على هذين الحزبين فأحدهما يمثل قمة البرغماتية بخروجه من الأممية وتبنيه الفكر القومي، أما الحزب الآخر وهو الحزب الشيوعي العمالي فهو لا يزال متمسكاً بدكتاتورية البروليتاريا.وبنفس الوقت هناك أحزاب إسلامية قد أصيبت بداء التفكك نتيجة للامركزية في التنظيم كحزب الدعوة الإسلامية الذي ظهر من رحمه عدة أحزاب من أبرزها حزب الدعوة تنظيم العراق، وحركة الدعوة، وكوادر الدعوة.التعددية الحزبية في العراق ـ رؤية مستقبلية:ما أن تهاوى تمثال الطاغية إلى الأرض في ساحة الفردوس، في العاصمة بغداد، حتى امتلأت الأسيجة والأماكن العامة باللافتات لمختلف الأحزاب والكيانات السياسية، في سعيها للحصول على النفوذ السياسي للحفاظ على مصالحها القومية والمذهبية والعرقية.حيث ظهرت تشكيلات جديدة لأحزاب الكثير منها ظل يدور في أفلاك الأحزاب الكبيرة على خلفية تنوعها الذي ذكرناه آنفاً، والبعض منها حاول مد جسور للتواصل بين مختلف التيارات، كتجمع الديمقراطيين المستقلين ـ الدكتور عدنان الباجة جي ـ أو التجمع الجمهوري العراقي ـ سعد عاصم الجنابي ـ وحركة الضباط والمدنيين الأحرار ـ نجيب الصالحي، والمؤتمر الوطني العراقي ـ الدكتور أحمد الجلبي ـ وحركة الوفاق الوطني ـ الدكتور أياد علاوي، حيث تضم هذه الحركات والأحزاب أشخاصاً من مختلف القوميات والمذاهب، الا ان تمثيلها وقواعدها الشعبية ظلت بعيدة عن منافسة الأحزاب الكبيرة الممثلة للقوميات والمذاهب.ولا بد من الإشارة الى ان التشريعات التي سُنت للعملية السياسية في العراق كقانون إدارة الدولة العراقية وقانون الأحزاب والهيئات السياسية رقم 97 لسنة 2004 وقانون الانتخابات رقم 96 لسنة 2004 ستسهم في تعزيز التعددية الحزبية في العراق.ولتفصيل ذلك لا بد من الإشارة الى ما يلي:1. ان قانون الانتخابات رقم 96 لسنة 2004 الذي سيجري بموجبه انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية قد أخذ بنظام التمثيل النسبي الذي سيسمح بدوره بتمثيل عادل لمختلف التيارات السياسية في العراق كذلك الأخذ بنظام الدائرة الواحدة سيسمح للأقليات المتوزعة بشكل عشوائي على عموم العراق بأن تتمثل داخل الجمعية الوطنية.2. أما قانون الأحزاب والكتل السياسية رقم 97 لسنة 2004 فقد أعطى الحق حتى للأشخاص المنفردين بان يكونوا كيانات سياسية لغرض خوض العملية الانتخابية اذا حصل الواحد منهم على توقيع ملا يقل عن (500) ناخب مؤهل، وبالفعل قد حصل بعض الأشخاص على تصديق المفوضية العليا المستقلة للانتخابات باعتبارهم كيانات سياسية، وهو مبدأ غريب انفرد فيه هذا القانون عن باقي التشريعات الانتخابية الدولية.3. ان طريقة التصويت داخل الجمعية الوطنية الذي نصت عليه المادة الخامسة والثلاثون من قانون إدارة الدولة العراقية واللازمة لاتخاذ القرارات المهمة كتعيين الهيأة الرئاسية أو عزل أحد أعضائها، حيث اعتمدت الأغلبية الموصوفة (أغلبية الثلثين أو أغلبية ثلاثة أرباع الجمعية الوطنية)، والتصويت بالاجماع بالنسبة لقرارات التي تتخذها الهيأة الرئاسية المكونة من ثلاثة أشخاص ستجعل من العسير لأي كتلة أو حزب داخل الجمعية الوطنية من تحقيق إرادته السياسية دون التحالف مع كتل أو أحزاب أخرى، وما يمكن اسقراؤه من كل ذلك أن أغلب ما سيصدر من تشريعات من الجمعية الوطنية سيكون محكوماً بالأخذ بمصالح جميع الفرقاء في العملية السياسية.وحيث ان نظرية التعددية الحزبية في الدول الديمقراطية تقوم على مبدأ عدم وجود تفاوت كبير بين الأحزاب من حيث القاعدة والتأثير، وهو ما لا يتوفر إلا لعدد محدود من الأحزاب العراقية، فيمكننا استنتاج ما تتمخض عنه العملية السياسية في العراق، وهو نشوء تحالفات ظهر جزء من ملامحها من خلال تشكيلة القوائم المتنافسة في انتخابات الجمعية الوطنية التي ستجري في الثلاثين من كانون الثاني وستؤدي تلك التحالفات الى نشوء ما نستطيع أن نصطلح عليه تسامحاً بالثلاثية الحزبية:- أحزاب قومية.- أحزاب دينية شيعية.- أحزاب دينية سنية.وستتمحور كل القوى السياسية حول هذا المثلث السياسي.

الخصوصية المحلية في النظام الفيدرالي: النموذج السويسري

الخصوصية المحلية في النظام الفيدرالي: النموذج السويسري

القاضي قاسم حسن العبودي
بعد دراسة النموذج الفيدرالي السويسري([1])، والتعمق فيه يكتشف الباحث بأن قضية الفيدرالية ليست قضية تسميات وهي أوسع من التنظير أو تحديد أطار نظري لشكل الدولة الفيدرالية ، بل استطيع أن أجزم أن النظام الفيدرالي ليس نظاماً قانونياً صرفاً بل هو نظام واقعي يخضع لكثير من التدابير غير المتناسقة في سبيل احتواء نزعة الاستقلال والانفصال وتعزيز مفهوم التعايش السلمي..
لكني لا استطيع أن أنكر أن النظام الفيدرالي وفي سبيل تحقيق الغايات المذكورة أنشأ مجموعة من القواعد القانونية، منها ما يتعلق بالحقوق والحريات وضرورة أيجاد نوع من التوازن بين الحريات الشخصية والأمن والسلم الاجتماعيين ، وقواعد أخرى تتعلق بالرقابة على دستورية القوانين.
وعندما يتحدث (رونالد واتس) عن عدم وجود نموذج فيدرالي نقي تماماً فهو يعني بأنه لا يمكن استخلاص القواعد المنظمة للنظام الفيدرالي من نموذج واحد.
فهناك قدر كبير من التفاوت بين النماذج الفيدرالية أملته العوامل الإنسانية والمادية على الأرض .
وخلاصة القول انه عندما يفضل السياسيون الحلول السياسية السهلة على الجانب النظري القانوني المحض يظهر ما نسميه بالتدابير غير المتناسقة في الفيدرالية، كما حصل بالنسبة لكانتون جيورا الذي انشق عن كانتون بيرن نتيجة الاستفتاء عام 1979م إذ إن قسماً من هذا الكانتون ما يزال مرتبطاً بالعاصمة السويسرية بيرن على خلفية الانتماء الطائفي..
و لحل هذه المسألة دعت الحاجة الى تشكيل مجلس يضم (24) شخصاً (12) من كانتون بيرن و(12) من كانتون جيورا لادارة شؤون ذلك الجزء الذي يقع ضمن كانتون جيورا ، ولكن سكانه مصرون على البقاء ضمن كانتون بيرن.
تلك الحلول السياسية والتدابير غيرالمتناسقة وتفهّم الميل إلى المزيد من الخصوصية المحلية ربما كانت أهم العوامل التي منعت قيام حروب أهلية (قومية او دينية) ، اذ كلما ازدادت الوحدات المكونة للاتحاد الفيدرالي كلما قلت احتمالات قيام تلك الحروب.
ولكن الخصوصية المحلية هي أهم العوائق التي تقف أمام سعي الاتحاد الأوربي إلى مزيد من الاندماج والتحول من الكونفيدرالية إلى الفيدرالية وتظهر تجربة الاتحاد الأوربي أهمية هذا النظام في حل المشاكل وتذليل العقبات التي تخلقها الحساسيات الثقافية لشعوب أوربا.
فاعتماد عملة واحدة وبرلمان أوربي موحد وسوق مشتركة تضمن رفع الحواجز وفتح الحدود أمام تدفق الطاقات البشرية والسلع ومحاولة بناء منظومة قانونية موحدة .. قد ساهم بشكل كبير في مزيد من الاختلاط والجذب وإشاعة ثقافة التسامح والتعايش السلمي.
وفي كانتون بازل السويسري والمحاذي للحدود الفرنسية والألمانية أنشأت هذه الدول أربع جامعات عالمية على الحدود المذكورة تديرها الدول الثلاث حيث يدرس في تلك الجامعات طلبة من مختلف الدول الأوربية مما يتيح مناخاً ملائماً لتلاقي العادات والأفكار..فضلاً عن وجود مطار سويسري تم بناؤه على الأراضي الحدودية الفرنسية تستخدمه الدول الثلاث.
ولا يخفى أهمية هذه المسائل في تجاوز الحساسية المتعلقة بالسيادة وتخفيفها، كما تبدو مهمة بعض الدول الفيدرالية داخل الاتحاد الأوربي مهمة مزدوجة كبلجيكا وألمانيا واسبانيا وسويسرا في التكّيف للنظـام الفيدرالي على المستوين: المحلي والأوربي.
وفي اعتقادِي أن مهمة بلجيكا هي الأصعب في هذا المجال وذلك لحداثة النموذج الفيدرالي البلجيكي وتعقيداته إذ يعد نموذجاً فريداً من نوعه ، تعتمد من خلاله بلجيكا نظاماً مزدوجاً في التقسيم الفيدرالي ، فهي مقسمة على أساس إقليمي إلى ثلاثة أقاليم (الشمال والجنوب وبروكسل) وعلى أساس غير إقليمي (نظام الجماعات) بين الافلامان والولون والأقلية الجرمانية ، ويظهر النموذج البلجيكي صعوبة تكييف النظام الفيدرالي على أساس نظري قانوني محض .
وهذا بالضبط ما قصده رونالد واتس في كتابه(الانظمة الفدرالية) بقوله : (الفيدرالية ليست بمصطلح وصفي بل معياري).
ولكن هذا لا يعني إنكار دور الدساتير والمؤسسات الدستورية في صياغة النظم الفيدرالية إذ إنها ساهمت بتشكيل المجتمعات في النماذج الفيدرالية وتوجيه طاقاتها , أتاحت الفرصة للمزيد من التوفيق السياسي الفعال بين الضغوط من اجل التعددية والوحدة داخل المجتمعات..


[1] .التسمية الرسمية لدستور الدولة السويسرية، والذي ما يزال يسمى (الدستور الكونفيدرالي) وهو استصحاب للاسم القديم الذي بدأ به الاتحاد السويسري عام 1848م .

النظام السياسي وأثره في أعاده صياغة النموذج الفدرالي

النظام السياسي وأثره في أعاده صياغة النموذج الفدرالي

القاضي قاسم حسن العبودي
النموذج الفدرالي للدولة أكثر إنتاجا للنظم السياسية من النموذج البسيط، ويمكن أن ندرك اثر النظام السياسي بما يفرزه من تنافس على السلطة والصلاحيات عندما نقرأ ما كتبه (رتشارد سايمون) عن النظام الفدرالي الكندي ( إذا قرأت الدستور الكندي الصادر عام 1867 والقوانين الملحقة به لن تعرف ألا جزئياً من الممسك بزمام الأمور وما طبيعة المسؤوليات الموزعة , مع أن المادتين (91-92) من الدستور ُتعرفان بتوزيع السلطات والمسؤوليات ألا أنهما لا تمنحان ألا صورة جزئية عن توازن القوى الحقيقي ) وتساهم عملية التعاون والتنافس بين الحكومات المحلية والسلطة الاتحادية في صنع القرار السياسي في النظام الفدرالي. وقد يؤدي ذلك إلى إنتاج مجموعة من القواعد الدستورية من دون الحاجة إلى تعديل الوثيقة الدستورية وكما يقول رتشارد سايمون نفسه (وهكذا تستبدل حتى الميادين المحكمة الشروط بالتداخل والتشارك والاتكال المتبادل)[*].
ويمكن اعتبار فكرة إنشاء المجلس السياسي للأمن الوطني في العراق خطوة في هذا الاتجاه وعلى الرغم من أننا لا نستطيع الحكم على هذه التجربة في هذا الوقت المبكر ولكن إشارة النظام الداخلي للمجلس إلى حقه في إحالة مشاريع القوانين التي يتخذها المجلس إلى مجلس النواب للتصويت عليها احد صور هذا التنافس بعد أن ذكرت المادة (60) من دستور النافذ حصراً الجهات التي تقترح على مجلس النواب مشاريع القوانين والحديث عن النظام السياسي لا بد أن يقودنا إلى التطرق للتجربة الحزبية وأثرها في النظام الفدرالي فقد لعبت الممارسة الحزبية في النموذجين الأمريكي والسويسري دوراً كبيراً في إشاعة الاطمئنان الشعبي في المشاركة المتساوية في صنع القرار السياسي إذ لا تتبنى في الأحزاب كلا النموذجين أيدلوجيات عقائدية وإنما تعتمد برامجها على الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وقضايا الصحة والبيئة مما ساعد على استقطاب مختلف الشرائح المكونة لشعب الاتحاد وساهم ذلك بالتخفيف من الحساسية الدينية والقومية والرغبة في الانعزال والحكم الذاتي إلى مزيد من المشاركة والتفاعل , فالحزبان الكبيران في الولايات المتحدة الأمريكية (الجمهوري والديمقراطي) يضمان مختلف الشرائح في المجتمع الأمريكي ونجحا في استقطاب المصالح الاقتصادية الكبيرة وهما يتداولان الهيمنة على الرئاسة والكونغرس الأمريكي وكذلك الحال بالنسبة للأحزاب الأربعة المتنافسة على السلطة في سويسرا إلا أن النظام الانتخابي في سويسرا الذي يعتمد التمثيل النسبي سمح لهذه الأحزاب الأربعة بالتواجد في الهيئة التشريعية السويسرية وتشكيل الحكومة. وبمناسبة الحديث عن قوانين الانتخابات فهي إضافة للقوانين المنظمة للممارسة الحزبية ساهمت وبشكل كبير في نجاح التجربة الحزبية في النموذجين المذكورين.
ويكشف النظام الانتخابي المتبع في البرازيل
أهمية ذلك النظام في تعزيز الرابطة الوحدوية للدولة الفدرالية والحفاظ على نوع من التوازن في التمثيل داخل الهيئة التشريعية إذ تقسم البرازيل إلى عدد من الدوائر يماثل عدد الولايات حيث تعد كل ولاية دائرة واحدة لانتخاب أعضاء مجلس النواب و البالغ عددهم 513 عضواً ويتم توزيع المقاعد حسب عدد السكان في كل ولاية على إن لا يقل ذلك العدد عن ثمانية ولا يزيد عن 70 وأدى ذلك التحديد في عدد المقاعد بين الحدين الأدنى والأعلى إلى خسارة ساو باولو وهي الولاية الأكبر في البرازيل 40 مقعداً.
هذه الإجراءات تعكس قلق المشرعين البرازيليين من هيمنة ساو باولو وهي الولاية الأغنى والأكثر سكاناً على الشؤون السياسية والاقتصادية وهو ما كان سائداً في الحقبة المعروفة بالجمهورية الأولى.
ولم تساعد القوانين المنظمة للممارسة الحزبية والقوانين الانتخابية التي شرعت للعملية السياسية بعد سقوط النظام إلى مثل هذا النوع من المشاركة والاختلاط أو الجذب , وإنما أدت إلى مزيد من الاستقطاب الطائفي والقومي فاعتماد الدائرة الواحدة والقائمة المغلقة الذي فرضه الأمر رقم 96 لسنة 2004 وحتى القانون رقم 16 لسنة 2005 الذي شرعته الجمعية الوطنية واستجاب لضغوط المرجعية الدينية في تبني نظام الدوائر المتعددة لضمان تمثيل عادل لأبناء المحافظات, لم تتح تلك القوانين للناخب حرية الاختيار بل صوت لعناوين عريضة قومية أو طائفية كما أن الأحزاب والكتل السياسية المتنافسة حولت الدوائر المتعددة إلى دائرة واحدة عن طريق طرح قوائم مرشحين بعضهم لا يمتون لتلك الدوائر بصلة.
على إن لا يخفى مبررات اعتماد التمثيل النسبي والقائمة المغلقة والدائرة الواحدة وسهولته بالنسبة للتجربة العراقية الوليدة وللناخب العراقي كما انه يضمن تمثيلاً عادلاً لمختلف مكونات المجتمع العراقي.

النظام السياسي في العراق
تبنى دستور العراق الدائم لعام (2005) نظام الحكم النيابي كما ورد في المادة (1) جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق ).
وكانت فكرة تبني النظام النيابي لشكل الحكم في العراق مشفوعة بالعديد من الحجج التي من بينها قدرة النظام النيابي على استيعاب جميع مكونات الشعب العراقي ومشاركتها في صنع القرار السياسي كما ان النظام النيابي يبعد شبح عودة النظام الدكتاتوري
الا ان الاسباب الحقيقية وراء تبني النظام النيابي تتجسد في رغبة الكتل الكبيرة في الهيمنة وترسيخ مبدأ المحاصصة الذي قامت عليه العملية السياسية منذ تأسيس مجلس الحكم اذ يتيح شكل الحكم النيابي في العراق الذي تبناه دستور 2005 وقبله قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية.
توزيع الرئاسات الثلاثة (رئاسة مجلس النواب، رئاسة الجمهورية، رئاسة الوزراء) على الكتل الثلاثة الكبيرة ولقد ادى ذلك الى هيمنة واحتكار معظم الصلاحيات من خلال البرلمان وهو ما ادى الى تحويل النظام النيابي الى نظام اشبه ما يكون بنظام الجمعية اذ يهيمن البرلمان على الحكومة وليس لرئيس الوزراء اختيار اعضاء حكومته او حتى اقالتهم وهو ما ادى الى ضعف الاداء الحكومي الذي انسحبت عليه الخلافات بين الكتل وغياب التنسيق داخل المؤسسة التفيذية. وهو ما دعى رئيس الوزراء الى الطلب من بعض الكتل التخلي عن وزرائها وضرورة ترشيح اشخاص جدد لشغل الحقائب الوزارية على اساس الاستقلال والكفاءة والنزاهة بعيدا عن التحزبات والانتماءات العرقية والطائفية، الا ان قوة مجلس النواب بسبب الصلاحيات الواسعة الممنوحة له بموجب الدستور ستبقى عائقاً امام رئيس الوزراء في تشكيل حكومة قوية، لقد امتدت تلك الصلاحيات لشتمل الهيئات المستقلة والتي كانت فكرة انشائها خلق نظام مؤسساتي لا ينسحب عليه ضعف الاداء الحكومي من خلال استقلال تلك الهيئات مالياً وادارياً ولا يكون لمجلس النواب سوى الاشراف على عملها ولكن واقع الممارسة العملية وبعض القوانين التي اصدرها مجلس النواب اضهرت تحكماً واضحاً لمجلس النواب في طريقة تشكيل تلك الهيئات وتعيين أعضائها واقالتهم كما هو الحال بالنسبة للقانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم (11) لسنة (2007).
المادة (102)
تعد المفوضية العليا لحقوق الإنسان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهيئة النزاهة مستقلة تخضع لرقابة مجلس النواب وتنظم إعمالها بقانون.
المادة (103)
أولا يعد كل من البنك المركزي العراقي، وديوان الرقابة المالية وهيئة الإعلام والاتصالات ودواوين الأوقاف هيئات مستقلة مالية وإداريا وينظم القانون عمل كل هيئة منها.
ثانياً يكون البنك المركزي العراقي مسؤولاً إمام مجلس النواب ويرتبط ديوان وهيئة الإعلام والاتصالات بمجلس النواب.
وعلى الرغم من إن النظام النيابي يفترض إن حق الحل هو حق متبادل أي يحق للبرلمان سحب الثقة من السلطة التنفيذية وللسلطة التنفيذية حق حل مجلس النواب إلا إن الدستور يقصر هذا الحق على مجلس النواب
فقط المادة 64 فقرة أولا
المادة 64 فقرة أولا يحل مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد اعضائة بناء على طلب من ثلث أعضائه، أو طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية ولا يجوز حل المجلس في إثناء مدة استجواب رئيس مجلس الوزراء.
إمعانا في إضعاف السلطة التنفيذية ينص الدستور على تأسيس هيئة عامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم
المادة 105
تؤسس هيئة عامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في المشاركة العادلة في إدارة مؤسسات الدولة الاتحادية المختلفة والبعثات والزمالات الدراسية والوفود والمؤتمرات الإقليمية والدولية وتتكون من ممثلي الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم وتنظم بقانون
وتجدر الإشارة إلى إن المشرع قد وقع في خطأ عندما قرن المحافظات غير المنتظمة في إقليم بالأقاليم في المادة 115
(كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصيرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما )

إذ ليس للمحافظات مجالس تشريعية لتشريع القوانين حتى يفترض امكانية حدوث خلاف مع القوانين الاتحادية واذا كان لاحدهم ان يفسر النص المذكور على إن الحديث هو عن الصلاحيات الممنوحة اصلا للمحافظات بموجب الدستور واحتمال تجاوز الحكومة الاتحادية على هذه الصلاحيات فان مطالبة بعض النواب عند مناقشة قانون المحافظات غير المنتضمة في إقليم لضرورة إن يكون لها مجالس تشريعية استنادا للنص المذكور يدحض هذا التفسير.
[*] .رتشارد سايمون Sociaty and Development of candian federalism.

الإطار القانوني للإنتخاب.. وأثره على الإرادة الشعبية


الإطار القانوني للإنتخاب.. وأثره على الإرادة الشعبية

القاضي قاسم حسن العبودي
تمهيد
كم كان ونستون تشرشل مصيباً عندما قال ( إن الديمقراطية هي أقل أنظمة الحكم سوءاً )! ولا أدري إن كان قال هذا الكلام قبل خسارة حزبه الانتخابات عام 1946 أم بعدها، وقد ظن أنه فائز لا محالة، خاصة وقد خرج منتصراً من أكبر حرب كونية عام1945 ، لكن الشعب الانكليزي أعطى درساً لكل القادة والسياسين من خلال تشرشل بأنه في المجتمع الديمقراطي ليس هناك قائد ضرورة او شخص لا يمكن تعويضه ، إنما هناك مؤسسات حاكمة عتيدة قادرة على الاستمرار والبقاء.
إن الديمقراطية الغربية استطاعت - من خلال الانتخاب واستمراره كوسيلة لتداول السلطة سلمياً - من إرساء قواعد احترام الرأي المغاير والمعارضة السلمية حتى شاع القول المشهور:
(Pull it Instead of bullet - اسحب بطاقة بدلاً من رصاصة)، ولكن الديمقراطية في مفهومها التقليدي (حكم الشعب) لا تكاد تجد لها مصداقاً حقيقياً حتى في ظل الدول الرائدة ديمقراطياً.
وسنقف في كل محطة من محطات هذا البحث لنتساءل عن مدى تحقيق أي نموذج انتخابي للارادة الشعبية..

القيود التي ترد على الاقتراع العام
ولا اقصد هنا القيود التنظيمية التي ترد على الناخبين والمرشحين، وهي عادةً ما تكون منطقية ومتماشية مع مفهوم الارادة مثل (السن، الاهلية ،العقلية، والادبية)، ولكن اقصد تلك القيود التي يفرضها النظام السياسي عندما يكون اكثر أنانيةً وحرصاً على الاحتفاظ بالسلطة، والتي من شأنها حرمان قطاعات شعبية واسعة من التأثير في القرار السياسي كـ(النصاب المالي، الكفاءة، الجنس) .
وقد استطاعت الطبقة البرجوازية المهيمنة على الجمعية التأسيسية الفرنسية عام 1791 أن توظف أفكار مونتسكيو وخاصة مفهوم سيادة الامة وكونها منفصلة عن سيادة الشعب وفكرة أن الانتخاب وظيفة وليست حقاً، وتم تقسيم المواطنين الى موطنين ايجابيين ومواطنين سلبيين، وتقييد الانتخاب باعتماد نصاب مالي هو مقدار ما يمتلك الفرد من اموال او ما يدفع من ضرائب كشرط للاقتراع، وقد فسروا ارتباط الانسان بالوطن ارتباطاً مادياً ، كما ان شرط الكفاءة العلمية قد استثمر في الولايات الامريكية لإبعاد المواطنين السود من المشاركة السياسية ومن حق الاقتراع حيث كان أغلبهم من الأميين.
وقد حرمت المرأة من التصويت في أوروبا عقوداً طويلة من الزمن ولم تستطع المشاركة في الانتخابات الا في وقت مبكر من القرن العشرين، ولم يسمح لها في الولايات المتحدة الامريكية من الاقتراع الا بعد تعديل الدستور الاتحادي عام 1920م .
وقد اتخذت الماركسية من القيود المذكورة مبرراً لرفض النموذج الغربي للديمقراطية لأنه صمم لمصلحة القوى الرأسمالية كونها وحدها تمتلك وسائل الانتاج والمال والمؤسسات الاعلامية التي تؤهلها للاحتفاظ بالسلطة وحرمان الطبقات العاملة من المشاركة في صنع القرار السياسي ، لذلك كان لابدّ، حسب النظرية الماركسية، أن يتم استبعاد هذا النموذج في تداول السلطة وحصر السلطة بيد الطبقة العاملة وهو مايسمى بدكتاتورية البروليتارية، الى ان يتم القضاء على تلك الطبقة و العودة الى الانتخاب..إلا إن هذه الدكتاتورية استمرت الى حين سقوط الانظمة الماركسية وتراجع الفكر الماركسي في العالم دون ان تشهد تحول حقيقياً الى الديمقراطية.

القيود التي ترد لمصلحة الاقتراع العام
وبالعكس من القيود التي تقيد الاقتراع العام هناك قيود ترد لمصلحة الاقتراع العام ومن شأنها ان تعزز الارادة الشعبية ، ومنها؛ ضمان تمثيل عادل للمرأة وللأقليات، وقد حرصت بعض الدساتير على ايراد ذلك في متن الوثيقة الدستورية المادة الثلاثون والمادة 49 من الدستور؛
(تنتخب الجمعية الوطنية طبقا لقانون الانتخابات وقانون الاحزاب السياسية. ويستهدف قانون الانتخابات تحقيق نسبة للنساء لا تقل عن الربع من اعضاء الجمعية الوطنية. وتحقيق تمثيل عادل لجماعات العراق كافة وبضمنها التركمان والكلدوآشوريين والآخرون)([1]).
(يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة الف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، يتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب فيه)([2]).

وتاكيداً لهذه النصوص تم ايرادها في قانوني انتخاب الجمعية الوطنية 96 لسنة 2004 وقانون انتخابات مجلس النواب رقم 16 لسنة 2005 ، بل ان حرص المشرع هذا ادى الى زيادة تمثيل المرأة الى الثلث تقريباً:
( يجب ان يكون اسم امرأة واحدة على الاقل ضمن اسماء اول ثلاث مرشحين في القائمة , كما يجب ان يكون ضمن اسماء اول ست مرشحين على القائمة اسماء امرأتين على الاقل , وهكذا دواليك حتى نهاية القائمة )([3]) .
( يجب أن تكون امرأة واحدة على الأقل ضمن أول ثلاثة مرشحين في القائمة، كما يجب أن تكون ضمن أول ستة مرشحين في القائمة امرأتان على الأقل، وهكذا حتى نهاية القائمة)([4]).
بينما كان اختيار القائمة المغلقة مع الدائرة الواحدة ضمان لحصول الاقليات على تمثيل عادل داخل الهيئة التشريعية يتناسب مع حجمها الحقيقي .
وتعالج بعض الدساتير والقوانين الانتخابية قضية الاقليات والمرأة عن طريق حجز مقاعد مسبقة يجعلها بمنأى عن المنافسة([5]).

ضمانات الاقتراع العام في المواثيق الدولية
الانتخابات الحرة النزيهة هي الركيزة الأساسية لبناء النظام الديمقراطي ولشرعية السلطة وتدوالها في أي بلد ، ولذلك اهتم بها وبشروطها وضماناتها المجتمع الدولي والمنظمات الاقليمية والوطنية المعنية بضمانات النظام الديمقراطي وصدرت البروتوكولات والصكوك الدولية والاقليمية التي تتناول بالتفصيل عناصر وشروط حرية الانتخابات ونزاهتها وشفاهيتها.
وقد اشارت كثير من المواثيق والصكوك الدولية لهذه المبادئ واسهبت بعضها في توضيح تفاصيل الاجراءات التي تكفل الحرية والنزاهة والشفافية ، منها : الاعلان العالمي لحقوق الإنسان و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المؤرخ في 16 كانون/ ديسمبر 1966 والاعلان العالمي للديمقراطية الصادر عن الاتحاد العالمي للبرلمانات، واعلان معايير الانتخابات الحرة النزيهة الصادر عن مجلس الاتحاد البرلماني الدولي في باريس آذار 1994م ، واعلان صنعاء عن الديمقراطية وحقوق الإنسان الصادر عام 2004م واعلاني بيروت وبامكو واعلان "هراوي" (1991م) وكثير غيرها من الصكوك والاعلانات.
وفي هذا الإطار نص الاعلان العالمي لحقوق الإنسان على ضرورة مشاركة كافة المواطنين في إدارة الشؤون العامة لبلدهم أما مباشرة أو من خلال ممثلين منتخبين([6]).
كما نص على أن ارادة الشعوب هي الأساس للسلطة الحاكمة واشترطت أن يتم ذلك من خلال انتخابات دورية عن طريق الاقتراع السري العام الحر الذي تتوفر فيه الضمانات لكي يعبّر المواطنون من خلاله عن ارادتهم الحرة([7]).
وقد جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، أنه يكون لكل مواطن، الحقوق التالية، التي يجب أن تتاح له فرصة التمتع بها دون قيود غير معقولة:
(أ) أن يشارك في إدارة الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية.
(ب) أن ينتخب وينتخب، في انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري، تضمن التعبير الحر عن إرادة الناخبين([8]).

أثرالنظام الانتخابي في التعبير عن الارادة الشعبية
ليس هناك نظام انتخابي مثالي لايخلو من المزايا والعيوب ، وتطبيق أي نظام انتخابي لايكون بوصفه النظام الامثل بل الانسب والاكثر قابلية للتطبيق في مجتمع ما وفقاً لطبيعة ذلك المجتمع وتشكيلاته، على ان هنالك ثلاثة عوامل رئيسية يفترض في النظام الانتخابي استهدافها وهي: السهولة، العدالة، الفعالية.
ولا يزال أقدم الانظمة الانتخابية وهو النظام المتبع في انتخابات الرئاسة الامريكية يثير الكثير من الجدل بين المتخصصين هناك عن مدى استجابته للارادة الشعبية، اذ ينص الدستور الامريكي على ان الانتخابات الرئاسية تجري على درجتين الا ان طبيعة الممارسة والعرف التي جرت عليها الانتخابات جعلها تجري في الواقع بصورة مباشرة وعلى درجة واحدة اذ يصوت الناخب الامريكي لاختيار ناخبين آخرين يسمون بالناخبين الكبار الذين يختلف عددهم من ولاية الى اخرى حسب كثافة السكان، وهولاء بدورهم يقترعون لانتخاب الرئيس.
وهولاء الناخبون الكبار هم مندوبو الحزبين في الولايات وما ان تعرف نتيجة التصويت لهولاء واي من مندوبي الحزبين حصل على اعلى الاصوات لاتكون هناك حاجة لاجراء الجولة الثانية من الانتخابات، ولكن - هنا يرد الاشكال - ان حصول اي من المرشحين للرئاسة الامريكية على الاصوات الاكثر في الولاية ، فانه بالنتيجة يحوز على كل اصوات مندوبي كلا الحزبين([9]) ، لذا فإن المرشح الفائر بالرئاسة يحظى اضافة الى اصوات مؤيديه اصوات خصومه ايضاً، وقد حدث اكثر من مرة، وهذا المهم في الموضوع، ان يفوز المرشح للرئاسة بأغلبية الاصوات الشعبية على مستوى الدولة الاتحادية ولكنه يخسر باصوات الناخبين الكبار .
ان هذا النظام الانتخابي رغم التعقيدات والاشكالات الواردة عليه قد ضمن التداول السلمي للرئاسة الامريكية وقد كفله الدستور والقوانين النافذة هناك .

نظام الاغلبية (نظام الفائز الاول )([10])
وهو اقدم الانظمة الانتخابية وابسطها اذ يفوز المرشح او الحزب إذا حصل على اكثر الاصوات، ويتبع في كثير من الدول ابرزها انتخابات مجلس العموم البريطاني وانتخابات الكونكرس الامريكي.
ومن أهم الانتقادات التي توجه لهذا النظام أنه لايعكس بشكل حقيقي الارادة الشعبية اذ قد يغيّب الكثير من اصوات الناخبين كما انه يؤدي الى حرمان الاحزاب الصغيرة والاقليات والمرأة من التمثيل في الهيئات التشريعية الا ان من ايجابيات هذا النظام انه يؤدي الى خلق حكومة قوية متماسكة تمتع بوحدة القرار والانسجام السياسي.
بينما تتمحور القوى المعارضة في كتلة واحدة قوية وبالتالي فإن السمة الغالبة للانظمة السياسية التي تتبنى هذا النظام هي الثنائية الحزبية.
وقد تم تطوير هذا النظام في بعض النماذج الديمقراطية ليصبح اكثر استجابة للارادة الشعبية باشتراط ان تكون الاغلبية مطلقة اي ان المرشح الفائزيجب ان يحصل على نصف الاصوات + 1، ويتبع هذا النظام في انتخابات الرئاسة الفرنسية.
ولما كان من الصعب في كثير من الحالات حصول المرشح على هذة النسبة في الجولة الاولى من الانتخابات استلزم الامر اجراء جولة ثانية بين المرشحين الذين حصلا على أعلى الاصوات، ولا يشترط في الجولة الثانية الاغلبية المطلقة بل يكتفى بالاغلبية البسيطة.
إن هذا النظام لم يسلم من النقد لأنه يهدر ما يقارب نصف أصوات الناخبين كما ان نظام الجولتين يمنح مناخاً للتحالفات السياسية المبنية على المساومة مع الاحزاب الخاسرة في الجولة الاولى، اذ عليها ان توجه ناخبيها لاختيار أحد المرشحين في الجولة الثانية.

نظام التمثيل النسبي
يعتبر نظام التمثيل النسبي من النظم الانتخابية الحديثة في العالم، إذ ان عمره لا يتجاوز القرن، وقد اعتمد في كثير من الدول ذات الأنظمة النيابية والتعددية الحزبية، وهو يتيح خلافاً لنظام الأغلبية بنوعيه (ذي الدور الواحد، وذي الدورين) للأحزاب الصغيرة تمثيلاً في البرلمان يوازي حجمها.
ويتم احتساب الأصوات ابتداءً بتقسيم الأصوات الصحيحة على عدد المقاعد المخصصة للدائرة ، وناتج القسمة هو مانسمّيه بالعتبة وهي عدد الأصوات اللازمة للحصول على مقعد واحد أسماه قانون الانتخابات رقم 69 لسنة 2004م بالحدّ الطبيعي.
وتم احتسابها وفقا لقانون ( إنتخاب الجمعية الوطنية العراقية ) بقسمة إجمالي عدد الأصوات الصحيحة على 275 وهي عدد المقاعد في الجمعية الوطنية ([11]).
وبالتالي فان أية قائمة لا تحصل على هذا الناتج تهمل ولا تحصل على أي مقعد داخل البرلمان، وبعد فرز الأصوات وتوزيع المقاعد على القوائم وفق الحد الطبيعي المذكور فإن ما تبقى من مقاعد شاغرة يوزع حسب هذا القانون على أكبر المتبقي، على انه تم استبعاد الكيانات السياسية التي لم تحصل على (العتبة) مع اصواتها التي حصلت عليها في انتخابات الجمعية الوطنية، وأعيد احتساب سعر المقعد لتحظى الكيانات الكبيرة بمقاعد اضافية، مماأدى الى استثمار حتى المقاعد الشاغرة المخصصة وفق القانون لأكبر متبقي (الباقي الأقوى) ،لصالح تلك الكيانات([12]).
أما في انتخابات مجلس النواب فقد تمّ توزيع المقاعد الفائضة على الكيانات التي لديها اكبر المتبقي على مستوى المحافظة، على الرغم من أن أصواتها على المستوى الوطني أقل من بعض الكيانات التي لم تحصل على مقعد على مستوى المحافظة. وهنا تلعب طريقة احتساب الاصوات وتوزيع المقاعد دوراً كبيراً في التحكم بإرادة الناخب([13]).

عيوب ومزايا التمثيل النسبي
لعل من أهم عيوب هذا النظام، أنه يؤدي إلى تكاثر التنظيمات الحزبية وزيادة تمحورها حول قيادتها، والتي تتجه غالباً إلى خلق التحالفات فيما بينها لتقوية مركزها وتشكيل قوة ضاغطة لأجل تحقيق مصالحها، مما قد يفقد البرلمان دوره الأساسي من كونه يمثل المصالح الشعبية إلى مجرد أداة تستعمل لصالح رؤساء الكتل الحزبية، وهذا ينعكس بدوره على بناء الحكومة وفاعليتها، حيث تستند الحكومة في ظل هذا النظام على أكثرية متحالفة ضعيفة البنيان، فاقدة الانسجام.
أما مزايا هذا النظام فإنها تفوق عيوبه، إذ هو يتيح فرصة أكبر لمشاركة مختلف التيارات السياسية، حيث تتمكن معظم الأحزاب من المشاركة في المقاعد البرلمانية بقدر نسبة الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات، وهو ما يجعل هذا النظام أكثر عدالة وضماناً لحقوق الأقليات والأحزاب الصغيرة، في المشاركة في الشؤون العامة لبلادها، فهو النظام الذي يمكّن الأقلية من التعبير عن وجهات نظرها.
في الغالب لايمكن تطبيق نظام التمثيل النسبي الا مع نظام القوائم، والقوائم على ثلاثة انواع:
مغلقة ، مفتوحة، وحرة.

نظام القائمة المغلقة
القائمة المغلقة هي التي لايكون للناخب فيها حق في تشكيل القائمة أو ترتيبها ، بل هو مجبر بقبول أحد القوائم والتصويت لها وفقاً للترتيب الموضوع من قبل الحزب أوالكيان السياسي، وقد تخلو القائمة المغلقة في بعض النماذج الانتخابية المطبقة من أسماء المرشحين ويكتفى باسم الكيان السياسي أواسم رئيس الحزب فقط! وبعد فوز الحزب او الكيان بعدد من المقاعد يرسل مرشحين لملء هذه المقاعد ، وهذا النظام مطبق في جنوب افريقيا.
ويمكن إجمال أهم ايجابيات نظام القائمة المغلقة بما يلي:
•· إحراز ضمانات تطبيق القيود التي ترد لمصلحة الاقتراع العام كتمثيل المرأة والاقليات وإلزام الحزب أو الكيان السياسي والناخب باحترام هذه القيود.
•· إن صوت الناخب يتسع في مساحته لاستيعاب أكثر من ناخب (حزب اوكتلة).
•· إن الاجراءات الخاصة بعد الاصوات وفرزها ، وهي الاجراءات الخاصة بالجهة التنظيمة للانتخابات وهي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ، تكون أسهل وأبسط من اجراءات عد وفرز الاصوات في ظل القوائم المفتوحة والحرة.
•· إن التجربة أثبتت أن نظام القائمة المغلقة اكثر سهولة للناخب ايضاً ، خاصةً بالنسبة للتجارب الديمقراطية حديثة النشوء ، وفي غياب توعية انتخابية كافية وارتفاع نسبة الامية.
•· إن مايحتاجه الناخب من وقت للتصويت للقائمة المغلقة اقل بكثير من القائمة المفتوحة والحرة ..
وسنعرف اهمية هذا الوقت عندما سنتحدث عن التجربة العراقية بشيء من التفصيل لاحقاً.
لكن هناك انتقادات توجه لنظام القائمة المغلقة ، من اهمها:
•· سلب الناخب حرية اختيار مرشحيه او ترتيب القائمة ، وإنما هو مجبر على التصويت للقائمة بغض النظر عن رضاه أو عدم رضاه عن بعض الاشخاص الموجودين، فيها.
•· ان نظام القائمة المغلقة لا يعطي مساحة كافية للانخراط والجذب والتنافس بين المكونات المختلفة في المجتمع .
وقد تم اعتماد القائمة المغلقة في انتخابات الجمعية الوطنية وانتخابات مجلس النواب بمشورة من فريق المساعدة الدولي المشرف على المفوضية العليا المستقلة للانتخابات للاسباب التي ذكرنها آنفاً .
وحيث ان القائمة المغلقة ليس للناخب حق التدخل في تشكيل القائمة أو ترتيبها نص قانون الانتخابات بان يراعى عدم جواز تغيير هذا الترتيب في القائمة من قبل الاحزاب والكتل السياسية:
( يتم توزيع المقاعد في المجلس على المرشحين وليس على الكيانات السياسية، ولا يجوز لأي من تلك الكيانات السياسية في أي وقت أن تسحب من أحد المرشحين المقعد الذي يشغله في المجلس الوطني بناء على تخصيصه له)([14]).
( يتم توزيع المقاعد على المرشحين وليس على الكيانات السياسية، ولا يجوز لأي من الكيانات أن تسحب من المرشح المقعد المخصص له)([15]).
( إذا فقد عضو المجلس مقعده لأي سبب يحل محله المرشح التالي في قائمته طبقاً للترتيب الوارد فيها)([16]).
لكن مجلس النواب في اولى جلساته شرع قانون لاستبدال الاعضاء أعطى من خلاله الحق للكتل السياسية بتسمية مرشحين آخرين لإشغال المقاعد الشاغرة من دون مراعاة الترتيب الوراد في القائمة([17]).
ويعتبر هذا النص مصادرة لارادة الناخب ومخالفة للمفهوم الذي تتوخاه القائمة المغلقة.


نظام القائمة المفتوحة والقائمة الحرة
وبعكس القائمة المغلقة فنظام القائمة المفتوحة المعمول به في معظم دول غرب أوربا (بولندا، فلندا، لوكسمبورغ، سويسرا) ، يتيح للناخب تحديد المرشحين المفضلين ضمن قائمة الحزب، بالاضافة الى اختيار الحزب المفضل أو تشكيل قائمة باسماء مرشحين من مختلف قوائم الاحزاب .
وقد استطاعت بعض النماذج الديمقراطية من تحقيق قدر كبير من الليونة في القائمة المفتوحة في تعزيز في إرادة الناخب ، ففي كل لوكسمبورغ وسويسرا يتمتع الناخب بعدد من الاصوات يساوي عدد المقاعد التي يتم انتخابها حيث يمكنه توزيعها على مختلف المرشحين سواء كانوا منتمين لحزب واحد أولأحزاب مختلفة ، وهذا ما يعرف بنظام القوائم الحرة على ان هذا النظام لا يطبق الامع نظام الدوائر المتعددة.
ان اهم مزايا القائمة المفتوحة انها توفر للناخب الارادة والحرية الكاملتين في اختيار ممثليه في الهيئات التشريعية .
على أن نظام القائمة المفتوحة كنظام الترشيح الفردي لايمكن تطبيقه الا مع الدوائر المتعددة..وهذا يستدعي بيان تفصيل الدوائر أولاً..

الدائرة الواحدة
تعبتر بعض الانظمة اقليم الدولة كله دائرة انتخابية واحدة كما هو الحال في البرتغال وفق دستورها الصادر عام 1933 ، وايطاليا في ظل النظام الفاشستي، ويطبق حالياً في اسرائيل.
وتم تبني هذا النظام في الانتخابات العراقية عام 2005م، لعدّة مبررات منها : عدم وجود احصاء سكاني دقيق ، وتخطي مشكلة التغييرات الديمغرافية التي رافقت واعقبت سقوط النظام.
ومن مميزات نظام الدائرة الواحدة أنه :
•· يمتازبسهولته بالنسبة للجهة المنظمة للانتخابات .
•· ويوفر عدالة في التمثيل قد تخل بها تقسيمات الدوائر غير المتماثلة .
•· يمنح المرشح حرية في عدم الخضوع للناخب كونه مرشحاً من جميع أفراد الشعب (الناخبين)، وهو يمثلهم جميعاً ولا يمثل دائرة او منطقة بعينها.

إلا ان نظام الدائرة الواحدة في الوقت ذاته يباعد بين الناخب والمرشح، اذ يضطر الناخب للتصويت لصالح أشخاص ليسوا من دائرته وغير ملمين باحتياجاتها ومشاكلها.


الدوائر المتعددة
قد يجري تقسم اقليم الدولة الى عدد من الدوائر يماثل التقسيمات الادارية كالمحافظات والاقضية والنواحي أوالاقاليم، اذا كانت الدولة اتحادية كفرنسا في انتخابات الجمعية الوطنية، ومصر بالنسبة لانتخابات مجلس الشعب ، والولايات المتحدة الامريكية بالنسبة لانتخابات الكونكرس، والعراق بالنسبة لانتخابات مجلس النواب عام 2005 م حيث تم تقسيم العراق الى ثماني عشرة دائرة بعدد المحافظات ، واعتبار كل محافظة دائرة انتخابية ،وتوزيع 130 مقعداً على تلك الدوائر حسب نسبة الناخبين في كل منها..وفقاً لسجل الناخبين الذي جرت بموجبه انتخابات الجمعية الوطنية 2005([18]).
وقد لعبت الانظمة السياسية دورا كبيرا في التلاعب بالتقسيمات وأحجام الداوئرة المتعددة خدمةً لأحزابها وآيديولجياتها وبغرض إبعاد المناوئين والمعارضين ، حيث استطاع جيري حاكم ولاية ماساشيوتس 1812 من تقسيم الولاية الى 9 مناطق انتخابية كبيرة تضمن كل منطقة 5 دوائر ، وساهم ذلك في فوز الحزب الجمهوري في ثماني مناطق من هذه التسعة، ونجح في إبعاد السود عن طريق تشتيت وإضعاف أصواتهم وفقاً لهذا التقسيم . ومنذ ذلك الوقت عرفت هذه الطريقة في الولايات المتحدة باسم (جيرماندر).
قد استُخدمت نفس الطريقة في فرنسا وفقاً لدستور عام 1958 ، اذ تمّ تقسيم فرنسا الى دوائر لم تراع فيها كثافة السكان في انتخابات مجلس الشيوخ، وتقرّر للقرى تمثيل يفوق أهميتها العددية على حساب المدن الكبيرة التي كانت غالبية سكانها من العمال الذين يميل أغلبهم الى الاحزاب اليسارية المناهضة لحكومة ديغول، بعكس القرى التي يغلب عليها الاتجاه المحافظ ([19]) .
وفي كينا عام 1993 جرى تقسم الدوائر بشكل متفاوت باحجامها بين منطقة واخرى مما ساهم في فوز الحزب الوطني الافريقي الكيني على الرغم ان نسبة التصويت كانت متدنية جداً حيث لاتزيد عن 30% .
وقد أدرك القضاء ضرورة مراعاة التوازن في عملية تقسيم الدوائر بشكل يعكس قيمتها العددية ، اذ قضت المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة عام 1964 بعدم دستورية اي تقسيم لاتراعى فيه المساواة في عدد السكان ضمن الدوائر الانتخابية . ولأهمية ذلك الموضوع وخطورته تضمنت بعض دساتير الدول مواد خاصة بتقسيمات الداوئر الانتخابية.

نظام الدوائر المتعددة في العراق
تنبهت التشريعات العراقية في وقت مبكر لأهمية هذه التقسيمات فقد نص قانون انتخاب مجلس (مبعوثان عثماني) والصادر عا م 1908 على اعتبار كل لواء دائرة انتخابية ، وان عدد اعضاء هذا المجلس يكون باعتبار واحد لكل خمسين الف من ذكور التبعية العثمانية ، وتأثر بالقانون المذكور انتخاب مجلس النواب لسنة 1924 واعتبر ان كل نائب يمثل عشرين الف من الذكور، ولم يتضمن قانون انتخابات المجلس الوطني رقم 26 لسنة 1995 ذكراً لتقسيمات الدوائر الانتخابية لاغراض انتخاب اعضاء المجلس الوطني وترك المسألة للهيئة العليا المشرفة على الانتخابات التي شكلها النظام، والتي قامت بتقسيم الدوائر وفق مايخدم مرشحي حزب البعث الحاكم.
وهناك جدل في الاوساط الشعبية والسياسية عن امكانية تقسيم العراق الى دوائر متعددة على مستويات أصغر من المحافظة كالقضاء والناحية مما يساعد في تبني نظام انتخابي اكثر مرونة.
وهناك عدة عقبات تحول دون امكانية هذا التقسيم في الوقت الحالي ، أهمها.
•1. عدم وجود إحصاء سكاني دقيق.
•2. ان قاعدة بيانات البطاقة التموينة التي تم الاعتماد عليها وجرت بموجبها انتخابات الجمعية الوطينة وانتخابات مجلس النواب لاتعطي صورة دقيقة لتوزيعات السكان على الارض ، وانما تم تقسيم بياناتها باعتبار كل مركز تمويني ، ويتفاوت عدد مراكز التموين من قضاء الى آخر، اذ يبلغ أعلى عدد لمراكز التموين في قضاء الرصافة 72 مركزاً بينما لايزيد في قضاء آخر عن مركز واحد أو اكثر لكل قضاء . هذا بالاضافة الى تداخل المنتفعين من البطاقة التموينة بين الاقضية والنواحي.
•3. ان قاعدة بيانات البطاقة التي تمّ الاعتماد عليها في إعداد سجل الناخبين لانتخابات الجمعية الوطنية ومجلس النواب والاستفتاء على الدستور ، يتم توزيع المواطنين بموجبها على وكلاء المواد الغذائية ومراكز التموين ، وهناك صعوبات تحول دون اعادة توزيعها على الاقضية والنواحي في الوقت الحالي على الاقل ، وأهم تلك العقبات:
•· ان آلية توزيع المواطنين وفقاً للبطاقة التموينة تم على اساس الكثافة السكانية وقرب وبعد الوكلاء والمواطنين عن مركز التموين وليس على اساس اداري (القضاء والناحية).
•· توجد مشاكل في الحدود الادارية وتداخل لبعض الاقضية بين المحافظات فهناك مجموعة من الاقضية تقع واقعياً الآن ضمن ادارة محافظات غير محافظاتها الاصلية ([20]) .
•· هناك تداخل مابين الاقضية نفسها بحيث يوجد بعض وكلاء المواد الغذائية في قضاء معين ومنسبين الى مركز تموين في قضاء آخر .
•· كما انه لاتوجد آلية لحصر ومعرفة أعداد هؤلاء بسب عدم امتلاك قاعدة بيانات لمثل هذه المعلومات.
•· وتشكل مسألة النازحين والمهجرين مشكلة أخرى تضاف الى هذه المشاكل في حالة تبني قانون الانتخابات توجيه أصواتهم الى مناطق سكناهم الاصلية (التي نزحوا منها).
وفي كل الاحوال فإن المعوقات المذكورة أعلاه لا تتعلق بالجانب الفني لقدرة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بقدر تعلقها بوجدود قرار سياسي للكتل السياسية يحتويه إطار قانوني لحل هذه المعوقات([21]).

الأنظمة المختلطة (الاستفادة من مزايا اكثر من نظام واحد)
ان المجتمعات الراسخة في الديمقراطية تسعى حثيثاً لجعل النظام الانتخابي مستجيباً للإرادة الشعبية، وكاشفاً عنها بصورة فعلية ، مترجماً حجم أصوات الناخبين الى مقاعد.
بهذا الصدد تم ابتكار مجموعة من الانظمة عن طريق المزج بين اكثر من نظام انتخابي لتحقيق قدر اكبر من المرونة للناخب والمرشح، وعادةً ما يتم المزج بين أحد أنظمة الاغلبية ( الفائز الأول) مع احدى عوائل التمثيل النسبي.
وهناك شكلان رئيسيان للنظم الانتخابية المختلطة؛ فعندما ترتبط نتائج الانتخاب لأحد النظامين بنتائج الانتخاب في النظام الآخر، يسمى النظام عندئذ بنظام العضوية المختلطة ، أما عندما ينفصل النظامان عن بعضهما البعض بشكل كلي ويعملان بشكل مستقل تماماً، حيث لايستند توزيع المقاعد في ظل أي منهما على ما يحدث في النظام الآخر يطلق على ذلك النظام اسم النظام الانتخابي المتوازي ،وعادةً ما يسهم أحد الانظمة في سد الخلل الحاصل في النظام الآخر([22]) .
وعلى سبيل المثال: لو فاز حزب ما بنسبة 5% من اصوات الناخبين على المستوى الوطني من اصوات القائمة النسبية في الوقت الذي لم يحصل فيه على مقاعد من تلك المخصصة للانتخاب في الدوائر الانتخابية بموجب نظام الاغلبية النسبية (التعددية) فسيعطي ذلك الحزب 5% من مقاعد الهيئة التشريعية، وهذا مثال على نظام العضوية المختلطة .
أما وفق نظام الانتخاب المتوازي فعادةً مايتم وفقاً لطريقتين :
الطريقة الاولى: إعطاء الناخب ورقة اقتراع واحدة يكتب فيها اسم واحد لمرشح المقعد في الدائرة واسم الحزب المفضل (اي القائمة).
والثانية: أن يعطى الناخب ورقتي اقتراع منفصلتين واحدة للمقعد والثانية للقائمة.
والأنظمة المختلطة هي الاشهر والاكثر استعمالاً في الدول الديمقراطية اليوم اذ يتم اتّباعه في كثير من الدول الاروبية (ايطاليا، البانيا، المانيا، هنكاريا) وفي بعض دول امريكا الجنوبية (كالمكسيك وفنزويلا) ، وفي آسيا في كوريا الجنوبية وفي الانتخابات الفلسطينية وفقاً لقانون رقم 9 لسنة 2005 ، حيث تم تقسيم المقاعد بنسبة 50 % وفقاً لنظام الداوئر و50% وفقاً لنظام القائمة النسيبة باعتبار الاراضي المحتلة دائرة واحدة.

أثر النظام الانتخابي على التجربة الحزبية
أشرنا في مقدمة البحث الى تأثير النظام الانتخابي على الانظمة الحزبية، وأنه يقوم بدور كبير في صياغة هذه الانظمة في بلد ما، فقد ساهم نظام الاغلبية في تشكيل ثنائية حزبية في كل من الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا ، ففي كلا البلدين حزبان كبيران عادة مايكون أحدهما في السلطة والآخر في المعارضة، بينما أدى تبني نظام التمثيل النسبي والانتخابات غير المباشرة في زيادة عدد الكتل الحزبية المتواجدة في المجالس التمثيلية.
وأدى ذلك الى اتساع نطاق المشاركة في صنع القرار السياسي وإضعافه في ذات الوقت، حيث غالباً ما لا يتمكن حزب او كيان سياسي من تشكيل الحكومة بمفرده ، مما يضطر الى التحالف او الائتلاف مع حزب او احزاب اخرى رغم اختلافه معها في الآيدولجيا والمشروع السياسي مما ينعكس هذا الاختلاف على اداء الحكومات الناتجة عن هذا النظام .
وعادةً ماتنهار هذه الحكومات قبل مدة ولايتها وهو ماحدث أكثر من مرة في ايطاليا واسبانيا وتركيا، ويدعى الناخبون الى انتخابات مبكرة ، الا إن لهذه الدول مؤسسات عتيدة لاينعكس عليها بشكل كبير ضعف الاداء الحكومي ، كما ان الانتخابات غير المباشرة على خلاف الانتخابات المباشرة تفسح المجال أمام التحالفات السياسية المبنية على المساومة واقتسام المكاسب.

أثر النظام الانتخابي على شكل الدولة
و يمارس النظام الانتخابي ايضاً دورا كبيرا في اعادة صياغة شكل الدولة وفقاً لارادة النظام السياسي فيما اذا كان متجهاً نحو مزيد من السلطة والمركزية للحكومة الاتحادية او مزيد من تقاسم السلطة و نقلها الى الاقاليم او الولايات في ظل النظام الاتحادي، فقد أدى تبني نظام الاغلبية (الفائز الاول) في الولايات المتحدة الامريكية الى تعزيز سلطة الدولة والحكومة الاتحادية، ونجح الحزبان الكبيران الجمهوري والديمقراطي في استقطاب مختلف فئات وشرائح المجتمع الامريكي ، وفي نفس الوقت نجح في استقطاب المصالح الاقتصادية الكبيرة وأتاح ذلك الهيمنة على الرئاسة والكونكرس، وتعاقب الحزبان في إدارة البيت الابيض مما أدى الى احداث تحوّل في مجلس الشيوخ من تمثيل مناطقي الى تمثيل حزبي وطني بسبب التجربة الحزبية، فإن هذا المجلس عادةً ما تتمثل فيه الولايات بشكل متساو اذ يمثل كل ولاية في مجلس الشيوخ شخصان، لكن التجربة الحزبية أحالت ذلك التمثيل من تمثيل مناطقي الى تمثيل حزبي وطني، وانعكس ذلك بدوره على التشريعات الصادرة من الكونكرس والتي تبرز اتجاه الولايات المتحدة الامريكية الى مزيد من الاندماج والوحدة، وهو ما يحدث الى حد كبير في استراليا.
ان هذا النجاح الذي حققته التجربة الحزبية يكمن في إزالة الحساسية بين مكونات المجتمع الامريكي المختلفة فلم يعد مهماً لدى الفرد شكل الدولة سواءً كان بسيطاً أم مركباً.
وفي البرازيل يجري تقسيم الدولة الاتحادية الى عدد من الدوائر تماثل عدد الولايات باعتبار أن كل ولاية دائرة انتخابية ، لأغراض انتخاب أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 513 نائباً، وحسب الكثافة السكانية لكل ولاية . على أن ذلك التمثيل ينحصر بين حدّين؛ الحد الادنى ثمانية نواب ، والحد الاعلى سبعون نائباً.
إن عملية التحديد هذه جعلت ساوباولو الاكثر سكاناً والاكثر غنىً تخسر أربعين مقعداً ،كان يمكنها الحصول عليه لولم يحدد التمثيل بالطريقة التي ذكرناها ، بينما يعود هذا النظام بالنفع على الولايات الصغيرة قليلة السكان ويمنحها فرصة أكبر للإسهام والمشاركة في صنع القرار السياسي، والذي كان تحتكره ولاية ساوبالو في الفترة ما بين العامين 1899-1930 وهي الحقبة المعروفة بالجمهورية الاولى ، وان هذه الترتيبات تظهر قلق المشرّعين البرازيليين حيال هيمنة الحكومة المركزية وضرورة نقل بعض الصلاحيات والسلطات الى الولايات.
بينما يلاحظ أن تبنّي الاتحاد السويسري لنظام التمثيل النسبي قد ساهم في تواجد أربع احزاب سويسرية في الهئية التشريعية هم كل من الحزب الاشتراكي السويسري والحزب الراديكالي الديمقراطي والحزب الديمقراطي المسيحي والاتحاد الديمقراطي الوسط ، ويتعاقب ممثلو الاحزاب الأربعة على رئاسة الحكومة المشكّلة من سبعة أشخاص سنويا.
إلا إن النظام الانتخابي وشكله لم يؤثر في نموذجين فيدراليين آخرين ، هما كندا وجنوب أفريقيا ، اذ ان نظام الفائز الاول لم يكرّس التجربة الحزبية في كندا ، كما ان نظام التمثيل النسبي لم يعزز التعددية الحزبية في جنوب افريقيا ، ويعزى ذلك - في رأيي - الى تشكيلة الهيئة التشريعية في كندا ، اذ ان المجلس الثاني(مجلس الشيوخ) في كندا لا يتم فيه اختيار الأعضاء عن طريق الانتخاب، وإنما يتم تعيينهم بواسطة السلطات التنفيذية في الولايات وهي أحرص ما تكون على تغليب الخصوصية المحلية على المصالح الوطنية للدولة الاتحادية.
أما في جنوب أفريقيا فقد شهدت نظاما دكتاتوريا عمل على تهميش غالبية الشعب من السود مما أحدث تحولاً كبيراً جعل هذه الاغلبية تتمحور بشكل كبير حول قيادتها التقليدية المتثملة بحزب المؤتمر الوطني الافريقي الذي كان يرأسه نلسون مانديلا ، بينما استأثرت بقايا نظام بروتليا العنصري على تأييد الأقلية من البيض ، وحتماً ستشهد هذه التجربة الفتية ظهور كتل حزبية جديدة يساعدها في ذلك نظام التمثيل النسبي المتبع هناك.
ولا يفوتني ان اذكر ان بعض الاكاديميين المتخصصين في النظم الانتخابية ينتقدون طريقة تقسيم الدوائر في ضل النظام الاتحادي كونها لا تمثل عدالة في التمثيل ولاتعكس الاهمية العددية في الوحدات المكونة للاتحاد الفيدرالي لانه غالباً ما تتساوى الولايات في عدد الممثلين داخل مجلس الشيوخ أو مجلس الولايات أوالاقاليم بغض النظر عن كثافتها السكانية ، اذ يتمثل كل كانتون في سويسرا بنائبين في المجلس الاعلى (مجلس الشيوخ) وممثل واحد لكل نصف كانتون، علماً ان كانتون بيرن يقطنه اكثر من مليون نسمة بينما لايتجاوز عدد السكان في كانتون آخر على عشرين الف نسمة ..كما يمثّل كل ولاية شيخان في مجلس الشيوخ الامريكي.
الا انه لايمكن دراسة النظام الانتخابي بمعزل عن المنظمومة الديمقراطية للدولة الاتحادية فقد شهد المفهوم الديمقراطي في ظل الدولة الاتحادية تغليباً لمفهوم المشاركة في صنع القرار السياسي، يضع الوحدات الصغيرة في درجة مساوية الى حد كبير في صنع القرارات والتشريعات الفدرالية .
وبإمكاننا ان نفهم ذلك اكثر عن طريق استقراء النصوص المتعلقة بذلك في الدساتير الفدرالية فقد نص الدستور السويسري على ضرورة استحصال التشريعات على الأغلبية المركبة ، أي أغلبية الشعب السويسري من جهة واغلبية الكانتونات من جهة أخرى، أي أغلبية شعب الدولة الاتحادية وموافقة (14) كانتون من أصل (26) كانتون المكونة للاتحاد السويسري.
وكذلك نص الدستور الأمريكي على أن أي تعديل للدستور يجب أن يحظى بموافقة ثلاثة أرباع الهيئات التشريعية للولايات الأمريكية، وذلك على خلفية نشوء الاتحاد الأمريكي الذي نشأ عن اتحاد عدد من الدويلات المستقلة.
وما يعزز رأينا هذا في عدم امكانية اخضاع النموذج الفيدرالي للمفهوم التقليدي للديمقراطية هو خضوعه لبعض التدابير غير المتناسقة في سبيل احتواء نزعة الانفصال ، ولذلك لاتتساوى الوحدات المكونة في التمثيل داخل مجلس الشيوخ في بعض النماذج الفيدرالية، ففي ألمانيا يمثل كل ولاية ثلاثة مندوبين على الاقل، ولكل ولاية يزيد عدد سكانها على مليونين فلها أربعة مندوبين والولاية التي يزيد عدد سكانها عن ستة ملايين يكون لها خمسة مندوبين([23]) .
وفي كندا تتمثل المناطق الاربعة الرئيسة في كندا بـ (24) مقعداً لكل منها و يمثل مقاطعة نيوفاولاند (6) مندوبين ولا يكون لأقاليم السكان الأصليين الا ثلاث مقاعد.
و يُظهر نظام الفائز الأول في انتخابات مجلس الشيوخ الأسباني حسياسية النظام السياسي تجاه التسمية الفيدرالية التي يتحاشى الدستور والتشريعات الأسبانية ذكرها ، حيث يتألف مجلس الشيوخ الأسباني من (259) عضواً ، ومن المتوقع ان يبلغ (264) عضواً ، ويتم تقسم الدوائر وتوزيع المقاعد عليها بقانون يصدر بإرادة ملكية كل أربعة سنوات . ويتمع قانون الانتخابات الأسباني بسمو يناظر سمو الدستور حيث لايمكن تعديله إلا بإجراءات خاصة ومعقدة ([24]) .

انتخابات مجالس المحافظات غير المنتظمة بأقليم في العراق
بتاريخ 19 /3 /2008 صادق مجلس الرئاسة على قانون ينص على اجراء انتخابات مجالس المحافظات في موعد اقصاء الاول من تشرين الاول المقبل([25]) على ان يشرع مجلس النواب قانون للانتخابات خلال 90 يوم من صدور القانون المذكور.
وهناك جدل كبير حول نوع النظام الانتخابي الواجب تبنية في انتخابات مجالس المحافظات وقد تحدثنا في بداية البحث عن أن تبني أي نظام انتخابي جديد مرتبط بجملة عوامل سياسية وقانونية وفنية ، وحيث ان تقسيم المحافظة الواحدة الى دوائر على مستوى القضاء او الناحية مرهون بالارادة السياسية لحل المشاكل آنفة الذكر في البحث، فإن الخيارات المتاحة لتغير أوتبني نظام جديد تكون محدودة جداً .
وبالرجوع الى انتخابات مجالس المحافظات السابقة تم اعتبار المحافظة دائرة واحدة مع اعتماد نظام القائمة المغلقة ،وكان هذا النظام أسهل للناخب وللاحزاب والكيانات السياسية وكذلك للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق.
وكان معدل الوقت الذي يحتاجه الناخب خلف كابينة الاقتراع هو دقيقة واحدة ، علماً أن عدد الناخبين في كل محطة انتخابية هو بحدود 500 ناخب، وكان عدد مرشحي مجلس محافظة بغداد 1207 مرشحا يمثلون 51 كياناً سياسياً تنافسوا على مقاعد مجلس المحافظة البالغة 51 مقعداً ، فلو تم اعتماد القائمة المفتوحة على مستوى المحافظة وهو الخيار المطروح حالياً عند استبعاد الحلول المتعلقة بالاحصاء السكاني وتداخل الاقضية بين المحافظات وتداخل المستفدين من البطاقة التموينة بين المناطق المختلفة، ففي هذه الحالة على الناخب ان يملأ قائمة بستين مرشحاً من بين عدد المرشحين المذكورين، ولنتخيل كم يحتاج الناخب وقتاً خلف كابينة الاقتراع لإتمام عملية التصويت، وكم سيكون هذا الامر مرهقاً للناخبين الذين سيشكلون طوابير طويلة جداً أمام محطات الاقتراع، ولن يكون بالإمكان إتمام عملية الاقتراع في يوم واحد.
علماً إن عامل الوقت عامل حساس وحيوي في شفافية الانتخابات، إضافة لذلك فإن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تحرص على أن تجري انتخابات جميع المحافظات في يوم واحد لكثير من الاعتبارات المتعلقة بضروف العراق الاستثنائية.
وإن من المتوقع أن يزداد عدد المرشحين في الانتخابات القادمة كما سيزداد عدد المقاعد، وفقاً لما حدده قانون مجالس المحافظات، حيث من المتوقع أن يكون عدد مقاعد محافظة بغداد 60 مقعداً ، هذا بالاضافة الى الاشكالات المتعلقة بضمان تمثيل المرأة والاقليات، فاستجابة القائمة المفتوحة لضمان تلك الامور تكون بالتأكيد محدودة المرونة.

النظام الانتخابي المقترح
وفي رأيي أنه إن أريد تبني نظام بديل لانتخابات مجالس المحافظات فيمكن تجاوز هذه المشاكل والتوفيق بين الرغبات المختلفة عن طريق الجمع بين نظامين مختلفين ، والشكل المقترح للنظام الانتخابي يكون عبر الجمع بين نظام التمثيل النسبي ونظام الاغلبيية (الفائز الاول) باعتبار كل محافظة دائرة واحدة، وعلى النحو التالي:
تقدم الاحزاب والكتل السياسية قوائم باسم مرشحيها للمقاعد المخصصة لمجلس المحافظة ويقترع الناخب بأن يختار أولاً الحزب المفضل لديه ويصوت لمرشح واحد داخل قائمة هذا الحزب، وبعد الانتهاء من عملية التصويت والانتهاء من العمليات الاولية الخاصة بمعرفة الحدّ الطبيعي (العتبة) - وهو حاصل قسمة الاصوات الصحيحة على عدد المقاعد المخصصة لمجلس المحافظة - يتم احتساب نسبة الاصوات التي حصل عليها كل حزب أوكيان سياسي، فلو حصل الحزب على 20% من الاصوات يحصل على 20% من المقاعد، على أن توزيع هذه المقاعد على مرشح هذا الحزب يتم عن طريق نظام الاغلبية وفق ما حصل عليه كل مرشح.
هنا يمكن تصور أن يحظى بعض المرشحين داخل القائمة على أغلبية الاصوات بما يتجاوز العتبة فيصار تحويل الاصوات الفائضة الى مرشحين بنس القائمة وحسب نظام الاغلبية.
أما عن ضمان نسبة تمثيل النساء فهناك خياران لضمان تلك النسبة:
الاول عن طريق حجز مانسبة 25% من المقاعد (الكوته).
الثاني هو ان يتم استبدال الربع الاخير من المرشحين الفائزين في القوائم والذين حصلوا على اقل الاصوات بالنساء اللاتي حصلن على أعلى اصوات دون ان يبلغن العتبة.
ويمكن تصميم ورقة الاقتراع بأحد الشكلين الآتيين:
الاول أن تكون ورقة الاقتراع على شكل كرّاس ، كل ورقة منه تختص بحزب تضم إسم الحزب وشعاره وأرقام وأسماء المرشحين.
الثاني أن تكون ورقة الاقتراع كتلك التي تم اعتمادها في الانتخابات السابقة ويذكر فيها اسم كل حزب وشعاره ، وتحت الاسم مربعات صغيرة تحتوي على ارقام كل رقم منها يمثل أحد المرشحين.
وهناك نوع من التوافق لدى الكيانات السياسية في تبني هذا النظام لانتخابات مجالس المحافظات التي ستجري في أكتوبر- تشرين الأول المقبل، على أنه يجب ملاحظة التسمية المتداولة لدى الكيانات السياسية وفي مسودة القانون المقترح لدى الحكومة وهي (الصوت الواحد غير المتحول) .. إن هذه التسمية غير دقيقة لشكل النظام الانتخابي الذي شرحناه آنفاً لأن نظام الصوت الواحد غير المتحول يختلف عن هذا النظام.

مزايا وعيوب النظام المقترح
ان أهم مزايا هذا النظام المقترح لانتخابات مجالس المحافظات هو تمكين الناخب من التصويت لمرشح واحد في القائمة وبدون مراعاة للترتيب الذي وضعه الكيان السياسي، وهنا تظهر إرادة الناخبين في اعادة ترتيب المرشحين حسب استحقاقاتهم وحسب الاصوات التي سيحصلون عليها.
كما ان هذا النظام يحفظ قدراً كبيراً من النسبية يساعد على تلافي عيوب الدوائر أحادية التمثيل ، فهو أكثر سهولة مقارنةً بالقائمة المفتوحة من حيث الوقت الذي يحتاجه الناخب ومن حيث العدّ والفرز وكذلك بالنسبة للقضايا اللوجستية الخاصة بمواد الاقتراع..
أما عيوب هذا النظام فتتمثل في كونه لايمثل قدراً كبيراً من العدالة في توزيع المقاعد داخل القائمة الواحدة، فقد يكون هنالك فارق كبير بين المرشحين داخل القائمة ، وخاصة اذا ركّز الناخبون على بعض المرشحين داخل القائمة مما يجعله أقرب الى القائمة المغلقة ، حيث تتوزع الأصوات الفائضة لأحد المرشحين على زملائه الآخرين في نفس القائمة، وهذا يؤدي الى فوز بعض المرشحين بأصوات لم يستحقوها.
واذا كان من الممكن حل مشكلة تمثيل المرأة بالطرق التي ذكرناها فإن هناك مشكلة أخرى تبقى قائمة ، وهي مشكلة الأقليات حيث لاتتوفر قاعدة بيانات بعددهم ومناطق تواجدهم، ولحلّ هذه القضية شكّل مجلس النواب لجنة من ممثّلي الاقليات فيه، لغرض وضع دراسة بهذا لخصوص.
علماً ان قضية تمثيل الأقليات تكون أكثر تعقيداً في ظل الدوائر المتوسطة عما هو عليه في الدوائر الصغيرة أحادية التمثيل أو الدائرة الكبرى التي تعتبر أقليم الدولة دائرة واحدة ، حيث تُحلّ هذه المشكلة.
وفي النهاية ينصح المتخصصون في الانظمة الانتخابية بأن لايتم الانتقال من نظام الى نظام آخر مختلف تماماً ، وإن عملية التدرج في تبني الانظمة عملية مهمة جداً تأخذ بنظر الاعتبار وعي الناخب وطبيعة النظام السياسي و طبيعة المجتمع.


[1] . جـ من المادة الثلاثون من قانون ادارة الدولة .
[2] . المادة 49 من الدستور النافذ.
[3] . قانون انتخاب الجمعية الوطنية رقم 96 لعام 2004م، القسم الرابع: المرشحين للانتخابات ، ثالثاً.
[4] . المادة 11 من قانون انتخابات مجلس النواب رقم 16 لسنة 2005م.
[5] . كما هو الحال في قانون الانتخابات رقم 9 لسنة 2005 الذي جرت بموجبة الانتخابات الفلسطينية فقد خصص 6 مقاعد للمسيحين.
[6] . الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ، المادة 21.
[7] . الفقرة الأخيرة من نفس المادة (21).
[8] . المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
[9] . على سبيل المثال عدد المندوبين في ولاية كاليفورنيا 50 مندوباًُ فإذا حصل أحد المرشحين على 26 صوتاً منها فانه يحوز على الخمسين صوتاً .
[10] . هنالك أكثر من 211 نظاماً انتخابياً في العالم ،وقد آثرنا الحديث عن أمهات تلك الأنظمة فقط ..
[11] . راجع :أمر سلطة الائتلاف، رقم 96 لعام 2004م .
[12] . نظام توزيع المقاعد رقم 17 لسنة 2005م.
[13] . نظام توزيع المقاعد رقم 13 لسنة 2005م.
[14] . المادة 5 من القسم الرابع ، من قانون 96 لسنة 2004م.
[15] . المادة 13 من قانون انتخابات مجلس النواب 16 لسنة 2005 م.
[16] . المادة 14 من القانون نفسه.
[17] . هو القانون رقم 6 لسنة 2006 م.
[18] . وان كان هذا المبدأ ليس متماشياً مع ما أقره الدستور العراقي في حساب عدد مقاعد مجلس النواب ، وهو مقعد واحد لكل 100,000 مئة الف نسمة ، وليس بالنسبة للناخبين فقط . كما ان المرشح لا يمثل الناخبين المؤهلين فحسب ، وانما يمثل فئات الشعب المختلفة، ولكن هذا الاجراء برّر بعدم امكانية اجراء احصاء سكاني دقيق.
[19] . ثروت بدوي ،
[20] . وعلى سبيل المثال ان قضاء كفري هو ضمن الحدود الادارية لمحافظة ديالى ،ولكنه وفقاً لنظام توزيع البطاقة التموينية يتبع محافظة السليمانية.
[21] . من الجدير بالذكر أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق تمكنت بجهدها الذاتي من اسقاط قاعدة بيانات البطاقة التموينة على مستوى القضاء، لكي تعطي تصوراً حقيقياً للأعداد وحصر أعداد الناخبين منهم ، وتمكنت من انجاز مانسبة 85% من هذه العملية .
[22] . أشكال النظم الانتخابية، اندرو رينولدز وآخرون، ط المؤسسة الدولية للديمقراطية.
[23] . المادة 51- فقرة 2 من دستور المانيا الاتحادية.
[24] . راجع قانون الانتخابات الاسباني رقم 5 الصادر سنة 1985
[25] . قانون المحافظات غير المنتظمة في اقليم ، رقم 21 لسنة 2008م.