الخميس، 27 نوفمبر 2008

الخصوصية المحلية في النظام الفيدرالي: النموذج السويسري

الخصوصية المحلية في النظام الفيدرالي: النموذج السويسري

القاضي قاسم حسن العبودي
بعد دراسة النموذج الفيدرالي السويسري([1])، والتعمق فيه يكتشف الباحث بأن قضية الفيدرالية ليست قضية تسميات وهي أوسع من التنظير أو تحديد أطار نظري لشكل الدولة الفيدرالية ، بل استطيع أن أجزم أن النظام الفيدرالي ليس نظاماً قانونياً صرفاً بل هو نظام واقعي يخضع لكثير من التدابير غير المتناسقة في سبيل احتواء نزعة الاستقلال والانفصال وتعزيز مفهوم التعايش السلمي..
لكني لا استطيع أن أنكر أن النظام الفيدرالي وفي سبيل تحقيق الغايات المذكورة أنشأ مجموعة من القواعد القانونية، منها ما يتعلق بالحقوق والحريات وضرورة أيجاد نوع من التوازن بين الحريات الشخصية والأمن والسلم الاجتماعيين ، وقواعد أخرى تتعلق بالرقابة على دستورية القوانين.
وعندما يتحدث (رونالد واتس) عن عدم وجود نموذج فيدرالي نقي تماماً فهو يعني بأنه لا يمكن استخلاص القواعد المنظمة للنظام الفيدرالي من نموذج واحد.
فهناك قدر كبير من التفاوت بين النماذج الفيدرالية أملته العوامل الإنسانية والمادية على الأرض .
وخلاصة القول انه عندما يفضل السياسيون الحلول السياسية السهلة على الجانب النظري القانوني المحض يظهر ما نسميه بالتدابير غير المتناسقة في الفيدرالية، كما حصل بالنسبة لكانتون جيورا الذي انشق عن كانتون بيرن نتيجة الاستفتاء عام 1979م إذ إن قسماً من هذا الكانتون ما يزال مرتبطاً بالعاصمة السويسرية بيرن على خلفية الانتماء الطائفي..
و لحل هذه المسألة دعت الحاجة الى تشكيل مجلس يضم (24) شخصاً (12) من كانتون بيرن و(12) من كانتون جيورا لادارة شؤون ذلك الجزء الذي يقع ضمن كانتون جيورا ، ولكن سكانه مصرون على البقاء ضمن كانتون بيرن.
تلك الحلول السياسية والتدابير غيرالمتناسقة وتفهّم الميل إلى المزيد من الخصوصية المحلية ربما كانت أهم العوامل التي منعت قيام حروب أهلية (قومية او دينية) ، اذ كلما ازدادت الوحدات المكونة للاتحاد الفيدرالي كلما قلت احتمالات قيام تلك الحروب.
ولكن الخصوصية المحلية هي أهم العوائق التي تقف أمام سعي الاتحاد الأوربي إلى مزيد من الاندماج والتحول من الكونفيدرالية إلى الفيدرالية وتظهر تجربة الاتحاد الأوربي أهمية هذا النظام في حل المشاكل وتذليل العقبات التي تخلقها الحساسيات الثقافية لشعوب أوربا.
فاعتماد عملة واحدة وبرلمان أوربي موحد وسوق مشتركة تضمن رفع الحواجز وفتح الحدود أمام تدفق الطاقات البشرية والسلع ومحاولة بناء منظومة قانونية موحدة .. قد ساهم بشكل كبير في مزيد من الاختلاط والجذب وإشاعة ثقافة التسامح والتعايش السلمي.
وفي كانتون بازل السويسري والمحاذي للحدود الفرنسية والألمانية أنشأت هذه الدول أربع جامعات عالمية على الحدود المذكورة تديرها الدول الثلاث حيث يدرس في تلك الجامعات طلبة من مختلف الدول الأوربية مما يتيح مناخاً ملائماً لتلاقي العادات والأفكار..فضلاً عن وجود مطار سويسري تم بناؤه على الأراضي الحدودية الفرنسية تستخدمه الدول الثلاث.
ولا يخفى أهمية هذه المسائل في تجاوز الحساسية المتعلقة بالسيادة وتخفيفها، كما تبدو مهمة بعض الدول الفيدرالية داخل الاتحاد الأوربي مهمة مزدوجة كبلجيكا وألمانيا واسبانيا وسويسرا في التكّيف للنظـام الفيدرالي على المستوين: المحلي والأوربي.
وفي اعتقادِي أن مهمة بلجيكا هي الأصعب في هذا المجال وذلك لحداثة النموذج الفيدرالي البلجيكي وتعقيداته إذ يعد نموذجاً فريداً من نوعه ، تعتمد من خلاله بلجيكا نظاماً مزدوجاً في التقسيم الفيدرالي ، فهي مقسمة على أساس إقليمي إلى ثلاثة أقاليم (الشمال والجنوب وبروكسل) وعلى أساس غير إقليمي (نظام الجماعات) بين الافلامان والولون والأقلية الجرمانية ، ويظهر النموذج البلجيكي صعوبة تكييف النظام الفيدرالي على أساس نظري قانوني محض .
وهذا بالضبط ما قصده رونالد واتس في كتابه(الانظمة الفدرالية) بقوله : (الفيدرالية ليست بمصطلح وصفي بل معياري).
ولكن هذا لا يعني إنكار دور الدساتير والمؤسسات الدستورية في صياغة النظم الفيدرالية إذ إنها ساهمت بتشكيل المجتمعات في النماذج الفيدرالية وتوجيه طاقاتها , أتاحت الفرصة للمزيد من التوفيق السياسي الفعال بين الضغوط من اجل التعددية والوحدة داخل المجتمعات..


[1] .التسمية الرسمية لدستور الدولة السويسرية، والذي ما يزال يسمى (الدستور الكونفيدرالي) وهو استصحاب للاسم القديم الذي بدأ به الاتحاد السويسري عام 1848م .

ليست هناك تعليقات: