الخميس، 27 نوفمبر 2008

أضواء على التعديلات الدستورية

أضواء على التعديلات الدستورية

القاضي قاسم حسن العبودي

لم تعد مهمة الدستور قاصرة على بيان مصدر السلطة وطريقة ممارستها والعلاقة بين القابضين عليها، كما اعتاد ان يعرّفه شرّاح القانون الدستوري وانما امتدت تلك المهمة لتأطر مجموعة القيَم السائدة في مجتمع ما سواءً كانت قيماً اجتماعية او اقتصادية او حتى دينية. ونتيجة لذلك يعكس الدستور الصراع المفاهيمي لتلك القيم بين مكونات المجتمع وهذا ما يظهر بجلاء في المادة (2) من دستور العراق الدائم: الاسلام دين الدولة الرسمي ، وهو مصدر اساسي للتشريع.

أ. لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.
ب.لايجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
ج. لايجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في الدستور.

وتكشف هذه المادة بتفريعاتها حجم الصراع الفكري المبالغ به بين العلمانيين والاسلاميين ومناط المبالغة يرجع الى عدم الاطلاع بصورة دقيقة على حقيقة التشريعات العراقية وموقع الاسلام منها, اذ ان معظم التشريعات العراقية مصدرها الاساسي الاسلام فالنص على ان الاسلام هو مصدر اساس او المصدر الاساس لا ينشئ واقعا جديدا وانما هو كاشف عن واقع موجود أصلاً, فالقانون المدني على سبيل المثال - وهو العمود الفقري للمجموعة التشريعية العراقية - مأخوذة من مجلة الاحكام العدلية التي شرعتها السلطات التركية للولايات التابعة لها ومنها الولايات العراقية, ومجلة الاحكام العدلية هي عبارة عن تقنين للفقه الحنفي بالنسبة المعاملات .
وعند سن القانون المدني العراقي عام 1951 والذي اصبح نافذاً عام 1953 اخذت اللجنة التي شرعَت هذا القانون بمعظم ماجاء في مجلة الاحكام العدلية من احكام مع اضافة شيء من الفقه الفرنسي لاسيما النظريات الحديثة كنظرية الظروف الطارئة ونظرية التعسف باستعمال الحق ، وحتى هاتان النظريتان يذكر فقهاء القانون المدني في العراق اصولاً لهما في الفقه الاسلامي .
هذا بالاضافة الى الكثير من القوانين العراقية الأخرى , بل ان قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 هو اكثر القوانين العراقية التصاقاً بالشريعة الاسلامية اذ ان مصادره هي (القانون , الشريعة الاسلامية , القضاء والفقه الاسلامي).
وقد اثارت المادة (41) من الباب الثاني من الدستور جدلاً كبيراً حول مصير هذا القانون لما تضمنته من ركاكة في الصياغة والابهام في الحكم (العراقيون احراراً في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم او مذاهبهم او معتقداتهم او اختياراتهم وينظم ذلك بقانون).
الا انه لابد من الاشارة الى ضرورة الحفاظ على هذا المنجز التشريعي المهم خاصة بعد استقرار المحاكم العراقية عليه لما يقارب الخمسة عقود.
وكان من ضرورات تشريع هذا القانون هو عدم استقرار الاحكام بسبب تغير الحكام الشرعيين الذين كانوا يترأسون هذه المحاكم واختلاف مدارسهم الفقهية , بل ان رقابة محكمة (التمييز الشرعية) كانت رقابة اجرائية اكثر منها موضوعية لأن القرارات الصادرة من محاكم الطائفتين كثيراً ماتتركز الى اسانيد فقهية معتبرة وهذا مادفع باللجنة التي وضعت القانون الى اختيار اكثر الاحكام الشرعية واقعية واستقراراً وتقنينها في مواد القانون , اما المواريث فعلى الرغم من تقنين احكامها الا انها ظلت تابعة الى الاحكام الشرعية للطائفتين وتم اضافة بعض الآراء الفقهية الخاصة بالمذاهب الاخرى (غير السنية والشيعية) كالوصية الواجبة (مذهب الاوزاعي) .
ولايفوتني ان اذكر الموقف التاريخي للمرجعية الدينية في وقتها والرافض لتشريع هذا القانون، وقد استند موقف المرجعية في وقتها الى كون هذه الاحكام تمس العلاقات الاسرية الاكثر التصاقاً بالالتزامات الشرعية للمسلم ، ويبدو ان هذا الموقف التاريخي يلقي بظلاله على موفق بعض الاحزاب الاسلامية اذ يعد في وقته خطوة جريئة في وقت كانت المحاكم العراقية مقسمة على اساس طائفي بدرجتيها (الاولى والتمييز) .
واعتقد أنه من الضروري الحفاظ على قانون الاحوال الشخصية، كونه ‘على حد رأي الكثير من المتخصصين في هذا المجال، اكثر تشريعات الاحوال الشخصية معاصرة مقارنة مع تشريعات الدول الاسلامية الأخرى بل ان كثيراً من الدول الاسلامية ومنها مصر عدلت كثيراً من احكام الاموال الشخصية بأعتماد بعض الاحكام الواردة في قانون الاحوال الشخصية العراقي ، لكن بالامكان اجراء بعض التعديلات الضرورية التي تجعلهُ اكثر قبولا من جانب شرعي خاصة فيما يتعلق بأحكام التفريق القضائي حيث اعترفت القوانين الملحقة بهذا القانون بـ (17) طائفة غير مسلمة وأوجبت على القاضي في قضايا التفريق استحصال موافقة مسبقة من رئيس الطائفة على التفريق فمن باب اولى ان يتمتع المسلمون بهذا الحق.
اضافة لذلك فإن الكثير من القواعد الدستورية المتعلقة بضمانات التقاضي اوحتى تلك القواعد القانونية العامة التي تعدّ القاسم المشترك في الدساتير الدولية هي قواعد تتفق مع القواعد الكلية في الشريعة الاسلامية ، فعلى سبيل المثال قاعدة المتهم بريء حتى تثبت ادانته تقابلها في الشريعة الاسلامية قاعدة (اصالة البراءة).
وقاعدة مشروعية الجزاء والعقوبة تقابلها (لاجريمة ولا عقوبة الا بنص) وقاعدة (شخصية العقوبة) . فإن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم (وَلاتَزرُ وَازرةُ وزر أخْرَى وَمَا كُنَا مُعَذَبينَ حَتَى نَبعَثَ رَسُولاً) (الاسراء : من الاَية 15).
ولا ادعي ان الشريعة الاسلامية سبقت القوانين الوضعية الى تلك القواعد التي تتفق مع منطق العدالة الانسانية التي سعت لتحقيقها البشرية منذ انبعاثها على الارض وهي في ذات الوقت تمثل جوهر التشريع الاسلامي .
القضية الاخرى التي تعكس الحوار القيمي في الدستور هي قضية اللغة , فلأول مرة في التايخ العراقي الحديث تصبح اللغة الكردية لغة رسمية الى جانب اللغة العربية في عموم العراق بعد ان قصر دستور عام 1970 رسميتها على اراضي كردستان .
وقد فصلت مادة (3) من الدستور الدائم تحديد نطاق المصطلح وكيفية تطبيق احكام هذه المادة.
اللغة هي اهم طريقة لتوثيق حضارة وثقافة وقيم شعب ما وتحرص الشعوب على المحافظة على لغتها من التشويه والعجمة بل ان اكثر الدول الديمقراطية الاَن في العالم تحرص على دبلجة اي انتاج فني اجنبي الى لغتها الأم خوفاَ من التأثر السلبي باللغات الاخرى، ويعدّ الاعتراف باللغة الكردية لغة رسمية الى جانب اللغة العربية هو اهم انجاز يحققه الاخوة الكرد بعد القضية الفيدرالية.
ولابد من الاشارة سريعاً هنا الى بعض المشاكل التي قد تنشأ من ازدواجية اللغة كالاختلاف في تفسير النصوص التشريعية تبعاً لاختلاف اللغتين ومشاكل اخرى تتعلق بطرق التدريس والمناهج الدراسية ومشاكل فنية تتعلق باجراءات التقاضي فليس للمحكمة مثلاً ان تجبر احد المتخاصمين امامها على الحديث بأحدى اللغتين اذا كان لايجيدها بل يكون لزاماً على المحكمة ان تنتدب مترجماً لهذا الغرض.
علماً ان النظام الفيدرالي يفترض الاعتراف بأكثر من لغة رسمية حيث ان التغاير القومي (الحسياسة القومية) هي احدى مبررات نشوء كثير من النماذج الفدرالية اذ يعترف الدستور الكندي بلغتين رئيسيتن هي (الانكليزية و الفرنسية) وعادة مايشترط لتبوأ المناصب الحساسة اجادة اللغتين معاً كما يعتمد الدستور السويسري اربع لغات رسمية هي (الالمانية ، الفرنسية ، الايطالية ، الريوماتيشية) ، والاخيرة هي لغة الغجر الذين لاتزيد نسبتهم عن (1%) من سكان سويسرا بالاضافة الى اعتراف النظام الفدرالي برسمية بعض اللغات للجماعات العرقية في مناطق تواجدها .

ليست هناك تعليقات: